يتزايد كلام الساسة، باقتراب موعد الإنتخابات، مع الحرص على تنميقه؛ إلا أنهم لا يزكّونه من الخداع والنفاق، يهتمّون بالمظهر والقشور لا بالمضمون، معتقدين خطأ أن في ذلك الفاعلية للتأثير على الجماهير، وأنها في الشكل لا غير.
بقلم فرحات عثمان *
مثال هذا ما سمعناه ونسمعه، خاصة في رمضان هذه الأيام، من كذبة إحترام حرية الضمير والمعتقد بالبلاد، بينما واقع الحال يختلف تماما، مفنّدا كلام المسؤولين، من رئيس الحكومة إلى المسؤول الإعلامي بوزارة الداخلية. فهل يعرف هؤلاء حقّا حالة البلاد، أو يتجاهلون الحقيقة المرّة؟ وهلا إستفاقوا إلى أن ذهنية التونسيين تغيرت، فلم تعد لهم قابلية للكلام السياسي المخادع؟
لقد أصبح عموم التونسيين يستنكر، ولو ضمنيا خوفا من العواقب في دولة اللاقانون، كل كلام من المسؤولين يرشح بالكذب والمغالطة.هذه حقيقة البلاد اليوم، وإن لم يتردّد بعضهم ظاهريا في اللجوء، حسب ما إعتادوه، إلى نفس الخداع للتنويه بما في الكلام من فطنة أو ذكاء في التحيّل والتخلّص من واجب قولة الحق التي، رغم يأس التونسي من سماعها، تبقى قابعة في لاوعيه كأميرة قصص الطفولة النائمة بغابة النسيان تنتظر فتى أحلامها لإيقاظها.
ونحن نعلم في هذا الزمن، أكثر من أي وقت مضى، مدى تجلّي قيمة المتخيل كأساس للفكر، ووضوح دور اللاوعي كعماد للتصرفات الواعية؛ إذ ليست هذه مجرّد نتيجة العزيمة والعزم فقط، بل نتاج تجذر هذين في ما يختلج بالنفس البشرية من مشاعر، خاصة غير الواعية، وما يرسب في الوعي مما يختزله المخيال من صور ونماذج بها أساس تصرّف الفرد في محيطه الجمعي. فعلى اللاوعي الجماعي والمتخيل الشعبي تنبني كل تصرفات ابن آدم المتجلية في كلامه وأفعاله.
الكاريزما السياسية
لا شك أن الكلام السياسي، خصوصا في التصريحات الرسمية والخطب، هو من أفضل الأوعية الفكرية المختزلة لهذه الحقيقة، وذلك لما له – أو ما يجب أن يكون له – من بلاغة أو زخرف القول تجعل تأثيره على السامع من القوّة بمكان، فيأخذ لا بلبه فقط، بل بعقله. وهو يحدث عندما ينجح السياسي أو الخطيب في التعبير عما يدور في خلد الجماهير، متقمّصا تطلعاتها وما ترتقبه مما تستمع إليه؛ هذا في الحال الإيجابي، وأما في السلبي، فما يبذر فيها مما من شأنه النمو بصفة عجيبة لأجل التيرب الخصب الذي يكّونه عندها الخطاب السياسي. ويُعرف ذا عن الخطباء المتزعمين للحراك الإجتماعي في الظروف العصيبة؛ فليسوا هم من المتكلمين المفلقين بالضرورة، إلا أن كلامهم يغترف مما يغذّي اللاوعي والمتخيل، فيكون كالغيث الذي طال انتظاره في سنة مجدبة.
هذا حري بالسياسي الحق، وبالأخص العربي الذي في لغته الإتساع وقوة بيان ما من شأنه أن يجعل من كلامه سحرا بالمعنى الراقي، أي ما يوافق هوى السامع بلا مخاتلة أو خداع ودون تشجيع فيه لنزعات غوغائية أو نزغات شيطانية. فهو ما يجعل منه الفاعل الناجح، أي بديع اللغة في حسن نية مع سلامة مقاصد وصدق سريرة. وبديهي أن ذاك من أهم ما يؤسس لما يسّمي بالفرنسية charisme، أي ما هو بمثابة الهبة اللدنية grâce divine، وهو المعنى الاشتقاقي للكلمة باللاتينية charisma والإغريقية kharisma قبل أن يتطور ليعني النفوذ الجذاب والسلطة القوية المغناطيسية التي للفرد على الغير، والجموع خاصة.
والتونسي بطبعه ميال للبديع من اللغة والحسن من الخطاب، فهو فنان بطبعه، له قدرة الإحساس بنبرة الصدق وتذوّق ما في الكلام في وقع كلمه الرنّان علوّ كعب حسه ونبوغ النية الصادقة فيه. ولا شك أن مأتاه ما فيه من روح شرقية، أساسا عاطفية، رغم المظهر الخارجي الذي له عموما، المتقمص في هيئة المشاكسة. تلك هي الطبيعة المستنفرة التي تكلم عنها بعض علماء الاجتماع؛ والحقيقة أنها، في الواقع المعيش، ليست إلا الجُنّة التي يحمي بها التونسي ضعفه الأنطولوجي العاطفي، أي هي القناع على الوجه، لا للتخفّي بل خوفا من التسلط، أو العين مثلا؛ أو فيما أسمّيه «لعبة الأنا» jeu du je للتحيّل على محيط خانق لا يسمح له بالعيش على هواه، كما يعنّ له طبعه وتميل له نفسه، في الخفاء، بعيدا عن أعين الرقباء أو تسلط القوانين الغشوم الظلوم التي إعتادها لذي الشوكة، صاحب الحكم القائم. فالواقع المعيش مؤسس على النفاق وعلى مثال المشربية parabole du moucharabieh الذي تتنزل فيه لعبة الأنا السابقة الذكر، أي أن التصرف الشعبي غير صادق ضرورة، لا بطبيعة الحال، بل لأجل المحيط الخانق للحقوق وللحريات؛ لهذا يدأب المواطن البسيط على المراوغة والتملق والنفاق؛ وهي الحيلة للعيش سالما معافى ruse de vivre.
رغم ذلك، وحسب آخر الدراسات السيكولوجية، للتونسي نزعة تعطش شديدة لكل ما يروي غليله للثابت من القول في صفاء النية من أجل تهدئة طبعه المهوس خوفا من كل شيء، وحتى من نفسه. ولا تناقض في ذلك مع حسّه المرهف، الفنان، الذي يزيده دراية ومعرفة كيف تُؤكل الكتف وتُورد الإبل جراء ثقافته الشعبية وحكمتها المتجذرة في تجليات حياته اليومية.
هذه النفسية المركّبة complexe، بالمعنى الأصيل للتعبير حسب ما نظّر له عام الاجتماع الفرنسي إدغار موران Morin، تُعطي للتونسي أيضا مسحة من الثقة في النفس والإعتداد برأيه في كل شيء، وهي من رواسب الثقافة العربية والعنتريات البربرية، هذان الماردان (لا ماردا واحدا كما تكلم عنه الحبيب بورقيبة) اللذان يفرضان، إن لزم الأمر، التشبث بالقول بالمعيز ولو طاروا.
وتلك ثقافة شعبية لا حد لها، وهي حيلة أخرى للحياة، كما تتجلى في عبارات الشارع المشهورة، مثل «تدبير الرأس» أو «سلّكها» أو «ملخر»؛ وهي كلّها تبيّن القدرة الباهرة والعزيمة الراسخة على النفاذ مباشرة إلى النتيجة والحصول عليها مهما كانت الحال في محيط مناهض لحرية الإبداع.
ثراء الحكمة الشعبية واللغة العربية
إن المعرفة الشعبية ببلادنا لا حدود لها؛ وهي وثيقة الصلة بما عُرف عن التونسي من تفتح على الآخر والغيرية؛ لذا هي، في نفس الوقت، نشأة مع الآخر وللآخر، حسب التعبير الاشتقاقي اللاتيني لها cum nascere. إنّها علاقة حميمية، أفقية لا عمودية، فيها الترابط متين، إلى الإنصهار والفناء في الآخر، وأيضا أحيانا إلى الرغبة الجامحة للإنعتاق منه حين يصبح خانقا، متسلطا؛ فذلك من تيقظ طبيعة الإستنفار فيه التي ذكرنا. لهذا، بقدر ما يربط الشارع التونسي التونسيين ببعضهم، ينفّرهم عن بعضهم بعضا، فلا تعيد إئتلافهم إلا الكلمة الصائبة، كما لا يزيد نفورهم من أنفسهم إلا الكلمة غير الصائبة، تلك التي قال فيها القدامى «جاء يقول صحة قال سداف». فالتونسي، لطبعه العاطفي ولقيمة تشبعه بالروحانيات وتعلّقه بالعادات والتقاليد التليدة، يقّر للكلمة الطيّبة حق قدرها، وهي التي جعل منها دينه صدقة بحق.
وبديهي أن الكلام السياسي المتزن، الرصين، من الكلمات الطيبة؛ بل هو بيان وتبيين يأخذ بمجامع القلوب. وهو أيضا، على مستوى اللاوعي، بمثابة الرابطة بالشارع، إما فيها الإئتلاف وإما الإختلاف والنبذ حسب نبوغ المتكلّم أوالخطيب. ونحن نرى العديد من الساسة يحرصون على إثراء خطبهم بآيات أو إيحاءات من الذكر الحكيم، لا ضرورةً لنزعةٍ دينيةٍ في الشعب، إذ هو روحاني قبل كل شيء، وإنما لأن من شأنها تحريك أوتار حساسة في لاوعيه ومخياله. غير أن اللجوء إلى مثل هذه المُحلّيات البلاغية لا يجب أن يكون إصطناعيا، من باب الزخرف القولي؛ فذا لا يخفى على ذكاء التونسي الذي له القدرة الفائقة للتفريق بين الصدق والتمويه.
لذلك نجد التونسي اليوم لا يثق في كلام الساسة لما دربوا عليه من المبالغة في اللجوء للبديع من اللغة، أو الحرص على الكلام بالعربية الفصحى للتصرف كيف شاء الفرد فيها نظرا لأن إتساع العربية اللغوي يمكّن من فتح الباب على مصراعيه لكل التجاوزات والمغالطات، سواء كان ذلك على المجاز أو بغريب الألفاظ والقواعد أو الأضداد من الكلمات ذات المعنى المختلف رغم وحدة اللفظ.
ولا شك أن ظاهرة التضاد متفشية في الخطاب السياسي، حين لا يتردّد السياسي في الإغتراف من علوم البلاغة عامة، لا فقط من علم البديع؛ مع المغالاة في هذا الأخير إلى حد الفحش، إذ لا يكاد عندها يستقي ولا نقيرا من علمي البيان والمعاني، رغم أنهما أهم تلك العلوم البلاغية. فهمّ مثل هذا السياسي إستعمال البديع كعلم غايته تحسين الكلام وتزويقه، لا الأخذ بعلمي المعاني والبيان، لعناية الأول بمطابقة الألفاظ لواقع الحال ومقتضاه والثاني لتبيين الكلام أفضل ما يكون البيان؛ فهو بعيد كل البعد عن هذه الاعتبارات القيمية.
القطيعة بين النخب والجماهير
الحقيقة هي أن اللغة عند الساسة، رغم ما فيها من بديع سياسي، أصبحت هذه اللغة الضائعة التي تحدث عنها أحد أفضل العارفين بالروح التونسية، جون ديفينيو Duvignaud، صاحب الدراسة القيمة حول الواحة الجبلية «شبيكة» التي لا تزال من أفضل التحاليل السوسيولوجية إلى اليوم.
لهذا نرى البعض يقاطع لغة الشعب، أي الدارجة، للتشدق بلغة عربية قحة، لا شك أن العديد من أبناء الوطن لا يفهمها، ولا يحسن استعمالها أو فقهها. إلا أن هذا لا يهم السياسي المعني، بما أن غايته القصوى باستعماله للغة الأم ليست الأصالة بتاتا، إذ الأصالة في التأصل في الواقع المعيش والأخذ بكلام الناس كما هو، بل المغالطة مع راحة الضمير بالنسبة لما تحتّمه عليه معارفه الخاصة. فليس هو بالسياسي المحنك، الصادق النية، الذي يختار مخاطبة الشعب باللغة التي يفهمها، فلا يتحدّث لنفسه ومع نفسه، بل لسامعه وبلغته الفعلية، لغة كل يوم.
إن الهروب من الواقع المعيش للشعب من طرف بعض أهل السياسة له أسباب غير شعورية، هي في متخيّلهم. فباللجوء للعربية الفصحى وبلاغتها، يجد السياسي – الذي همّه تعاطي السياسة كخدعة – الضمانات الوجيهة غير الواعية لتأسيسٍ منطقيٍ لتصرفه السياسي اللاأخلاقي ولتهدئة روعه شيئا ما. فبالاعتماد على ما تسمح به بلاغة لغة الضاد، خاصة في بديعها، له من التعليلات الكافية ما يطمئن ضميره، إذ ذلك يضفي الوجاهة لفاقدها من زاوية الحس الديمقراطي وقواعد التعدّدية، بما أن لكلامه المخادع وجاهة لا شك فيها حسب القواعد اللغوية للغة الأم، وهي عند هذا السياسي المرجع الأساس.
هكذا، بإمكان السياسي الكلام مثلا عن الديمقراطية وهو لا يرى فيها إلا إحدى الكلمات الأضداد، مضمّنا إياها، في نفس الوقت وبدون أي حرج، المعنى المتعارف عليه الذي ينوي به مغالطة سامعه، والمعنى المعاكس الذي يقصده هو وحده، وهو نقيض سلطة الشعب. بذلك، هذا السياسي لا يناقض نفسه البتة! ثم هو، إن كان ممن ينادي بالأخلاق الإسلامية، لا يخالفها في منعها البات للكذب وفرضها قولة الحق ولو على النفس؛ ذلك لأنه يتكلم بلغة عربية فصحى، لغة القرآن، والتي من بلاغتها قبول الكلمات الأضداد؛ فله بذلك أن يقصد بدون أي حرج أحد المعنيين، المغالط ظاهرا والذي يعتقده باطنا. كذلك أيضا للسياسي الكلام عن حرية الضمير بتونس واحترام الحريات الخاصة وهو يعلم في نفس الوقت أن هناك من يُقتاد لمركز الشرطة لارتياده مقهى في رمضان أو يحاكم قضائيا لفتحه مقهاه في هذا الشهر؛ ولا فائدة للكلام عمّن يُضبط وهو يتعاطى الخمرة.
الساسة كهؤلاء كثر عندنا، وفي غير بلادنا، حيث لا تتسربل السياسة بالأخلاق؛ فهم يتعاطون الكلام السياسي المنافق ما يسمح لهم أن يسحبوا على بعض الكلمات المعاني الهجينة غير المصطلح عليها عموما، بل والمعاكسة تماما لها، بما أن همّهم ليس المرجعية السياسية المعروفة، بل مرجعيتهم الخاصة أو بديع اللغة العربية كبديع سياسي، أو قل هذه الخزعبلات، ما يُفقد السياسة لغتها الأصيلة، كسياسة الأخلاق poléthique،هذه اللغة الضائعة في عالم السياسة.ورغم أن القول بلا فعل لغو لا يُعتد فيه ولا يُعوّل عليه، فهو الشائع سياسيا. لذا، لا بد لمن ابتغى تعاطي السياسة النزيهة، أي سياسة الأخلاق، أن يحرص على الكلام الذي من شأنه النفاذ لمكنون المتلقّي له، أي لاوعيه ومتخيله. ,لئن فاجأ هذا البعض في البداية، tمن شأنه الانتهاء بإنشاء ردة الفعل المرحبة بكل ما هو منتظر مرغوب فيه، وفي ذات الوقت ميؤوس منه ببلاد انعدمت فيها الأخلاق.
* ديبلوماسي سابق و كاتب
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
شارك رأيك