ليست السياسة كما نراها ويتعاطاها العديد من أهلها الأدعياء، أي نفاق وكلام أقرب منه إلى جعجعة الجمل ومكاء الأبله الذي همّه التصدية ممن يتظاهر بالإصغاء إليه محاكاة له في غيّه؛ السياسة أولا وآخرا كلمة السواء، أي العدل، ما ينفي النفاق.
بقلم فرحات عثمان *
هذا ما يفرضه لا المنطق والأخلاق فقط، بل وثقافة ودين بلد يحتم دستوره النهل من مبادىء الإسلام. فأصل الكلام في الإسلام السواء، الذي هو الوسط، لغة؛ ثم هو المستوى في قول العرب : في سواء السبيل، أي في مستوى السبيل، وسواء الأرض بمعنى مستواها. هذا السواء في السبيل، أي الطريق المسبول، هو نفسه في الكلام والحكم وغيره مما يحتّم الله على العبد أن يكون في كلامه عادلا مقسطا. وهو معنى «كلمة سواء» الواردة في الآية 64 من سورة آل عمران أي الكلمة العدل وقد رُوي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ الآية هكذا: «إلى كلمة عدل بيننا وبينكم».
فما هي كلمة السواء التي نحن في أشد الحاجة إليها في الكلام السياسي بتونس وقد كثر اللغط والخداع والنفاق، بل والنهيق والجعجعة؟ إنها كلمة حب للشعب وعشق له بمشاعر الصدق وأحاسيس النية الصافية كما تتجلّى عند العاشق الصب الولهان.
عشق تونس الجنوني:
الحب، أو قل تعبير فرحات حشاد الخالد «أحبّك يا شعب»، هو الذي يختزل في كلمة أو تعبير ما ينقض المشهد السياسي التونسي المشار إليه أعلاه، وما من شأنه إفراز الجديد فيه؛ فالمحب الحقيقي صادق المشاعر، يضحّى بالغالي والنفيس لأجل محبوبه. فهلا كان هذا المحب السياسي الخطيب ومحبوبه شعبه ومعشوقه بلده، تونس؟ إن بلدنا لفي حاجة لمجنون في الحب جديد يكون مجنون تونس، يكنّها عشقا جنونيا. وهذا، بالطبع، لا بد له أن يتجلّى، علاوة عن الفعل، في كلام العاشق الولهان بوطنه.
إن الخطاب السياسي بتونس بحاجة إلى مثل مقولة حشاد تُردّد أكثر من مرة، نابعة من الأعماق مثل مقولة النقابي الفذ؛ فقد علمنا أن ما يصدر من الفؤاد موقعه الفؤاد عند متلقّيه، الشعب التونسي «الزوالي»، كما يُقال، هذا الغني بثروته الوحيدة التي هي عاداته التليدة وأخلاقه الروحانية وثقافته الشعبية؛ مع العلم أنه لا يجب الخلط بين هذه الهوية المركبة complexe بالمعنى السالف الذكر للتعبير، وما يُعتقد أنها مجرّد هوية دينية فحسب، كما سبق أن بيّناه في العديد من الأحاديث.
بمثل حب فياض كهذا، مع واجب رعايته والتدليل عليه بكل الوسائل الفعلية والتصرفات المحسوسة، يمكن النجاح ببلدنا في القطع مع ثقافة النفاق، بل والموت أيضا وقد تسربلت بالدين لتصبح فيه الشهادة الإنتحار، بينما هي الإتيان بالخبر القاطع الصحة؛ فالشهادة الحقيقة هي العيش لا الموت. لهذا، لا بد من العيش ليحيا الوطن؛ ومن الواجب الأخلاقي والديني في الخطب الجماهيرية، من باب الذكرى النافعة للمؤمنين، الدعوة مثلا ليكون شعارنا ببلادنا: لتحيا تونس بالعيش لها والنضال لأجلها أحياء، لا بالموت!
قطعا، إن من أهم ما هذه البلاد بحاجة له من الزاوية النفسية، حتى تتجاوز اللخبطة التي تعيشها في هويتها المشوشة، لهي المزيد من مشاعر الحب والتدليل عليها علنا، بدون تردّد ولا خجل في غير محله لما هو من أفضل المشاعر البشرية. فالشجاعة التي تنقص التونسي للتعبير عن مشاعره كما هي، عارية في صدقها، هي التي تختزل أغلب همومه. لهذا من المتوجّب للسياسي الصادق في خطابه الإقتداء بحشاد، أفضل الوطنيين، حين لم يتردد في التعبير عن حبه لشعبه بدون تورية. هذا اليوم لمن أوكد الضروريات في زمن تزايدت فيه مظاهر الكراهية ورفض الآخر، سواء المختلف وحتى غير المختلف، لأسباب واهية عموما، إذ سببها إنعدام الحب من القلوب عند التونسيين بعضهم لبعض. ومعلوم أن الحب هو أفضل الترياق للكراهية؛ فمع غياب إله الحب والحياة إيروس Éros يكون المجال رحبا لإله الموت والكراهية تاناتوس Thanatos.
من الأكيد أن ذا يفرض فتح الباب في السياسة لملكة الخيال مع الحرص على ربطها بالصدق، والشجاعة خاصة، التي تقتضي، حسب عبارة السياسي الفرنسي جان جوراس Jean Jaurès، التطلع للمثالي مع الأخذ بالواقعي. بهذا، للسياسي عندنا ابتداع النهج المحدث الذي ينقص تونس والإبداع في تقمص الإستثناء الذي تمثله البلاد exception Tunisie؛ ولو أنه، إلى الآن، بالقوة فقط en puissance، لا بالفعل، بالرغم من أنه عملي، وعن إقتدار، رابض في مكنون الذات التونسية، شيبا وخاصة شبابا، ولدانا وبالأخص بناتا.
هذا الذي من شأن السياسي المنتظر بالبلاد تجسيده في الفعل، وقبل ذلك في الكلام، أي في الخطاب الموجه للجماهير؛ فلا بد له من تجاوز كل العقبات التي تمنع حاليا من فتح قلبه الحي النابض لهذه الجماهير ليكون هو هي وهي هو. بذلك يجد نفسه، في ذات الوقت، متناغما مع ميزة هذا العصر الذي يلخصه ضمير الجماعة «نحن»، لا في صيغة جمع الجلالة، كما يحلو للبعض من عشاق الحكم لا الشعب، بل الجمع الجماهيري حيث الآخر هو أفضل التجلي للذات، وللمرور من الذات الصغرى، أي الذات الفردية، إلى الذات الكبرى، الذات الجمعية كوحدة متّحدة حيث «الأنا» هو «الآخر» حسب تعبير الشاعر الفرنسي رامبو Rimbaud، ومجموع الآخرين إتحاد وتضامن.
وذا لا يأتي إلا بمجاهدةٍ مستدامة للنفس على مستوى الفرد، وهو هنا أفضلهم، السياسي الذي يبين الصراط الأفضل والنهج السوي، وذلك في نطاق ما سمّاه قدامى الإغريق، كما ذكّر به ميشال فوكوMichel Foucault ، حوكمة الذات والغير gouvernance de soi et des autres. ونحن نعلم مدى اعتزاز العرب المسلمين بهذه الحضارة التي سبقت حضارتهم ومهّدت لها في تناغم متسق إذ لم تعتمد الحضارة العربية الإسلامية فقط على الإسلام كدين، بل كثقافة، وخاصة فتوحاته الفكرية في زمن التدوين الذي مكّن الذهن العربي من التفتق بكل حرية، ومنها في تأويل النص القرآني حسب مقاصده لا حرفه، لقصور العقل البشري النفاذ نهائيا للحكمة اللدنية. هذا الذي أعطى العقل العربي الإسلامي القدرة لبلوغ أفضل درجات الحضارة قبل الانحطاط، عندما تقوقع في حرفية نص دينه، ممتنعا عن مساءلته ومساءلة نفسه. ولا غرو أن المساءلة هي التي من شأنها، إذا عرفت كيف تتغلغل في الخطاب السياسي وتسكنها، من إحداث الثورة المتحتّمة فيه لأجل كلم راق يأتي بالإبداع قولا وفعلا، بدون أي نفاق.
الأنموذج الأمثل لحب الشعب:
لا شك أن ما مثّله نضال الزعيم الشهيد فرحات حشاد وحياته هو لتونس الأنموذج السامي لحب السياسي لشعبه؛ فهلا إستنبطنا خطبا من نوع مقالته الشهيرة «أحبّك يا شعب!» المنشورة بجريدة الحرية عدد 138 بتاريخ 26 نوفمبر 1950؟ هلاّ قلنا مثله:
«أحبّك يا شعب تونس الذي إمتحنك الدهر وامتحنته فعرف فيك الشجاعة مع الإخلاص، وعرف فيك الصبر مع المثابرة. أحبّك لما فيك من شعور فيّاض وإحساس نبيل ولما تكنّه من عواطف عند النكبات ومن تآخٍ عند المحن، وأحبّ فيك الإقدام عند إقتحام الشدائد وبذل الجهد المستطاع لانتشال الضعيف عند الحاجة. أحبّك في وحدتك عند المصائب وتكتلك أمام الخصم وصمودك أمام العدوان. أحبّك بما اشتمل فيك من خصال تفاخر بها وصفات حميدة ترفع رأسك، وأحبّك لحبّك في العمل واعتصامك بمبادئك المقدسة، وأحبّك لمشاطرتك أفراح المظلوم عند إنتصاره على الظلم ومساهمتك لأتراح المغلوب ومساعدته؛ فإذا ما شعرت بخطر يهدّد فردا أو قسما من هيكلك دق قلبك دقة واحدة واتجهت مهجتك كلّها لدفع الضرر.»
وهلا أضفنا ما قال أيضا، مع تصرّف بسيط يفيض الماضي على الحاضر المبتغى!
«ستصبح، أيّها الشعب التونسي النبيل، مثال الوحدة الصادقة يعسر على خصمك تفكيكها مهما حاول ومهما سعى وتفنّن في بث الخبث والدسائس؛ وليست هاته الوحدة مصطنعة أو ملفقة، بل هي وحدة متينة حقيقية واقعية ملموسة تتجلّى في أبهى مظاهرها. فأحبّك حين تبحث وتكثر من البحث عن مجرى أمور بلادك وسير قضيّتك، وحين تنتقد، وحين تصيح، وحين تغضب، وحين تدبّر؛ وأحبّك حين تدافع عن مختلف النظريات التي تخطر ببالك في سلوك السياسة العامة، وحين تستفسر وتستجوب، وحين تناقش وتحاسب؛ ولكنّك تترك النزاعات جانبا عند الشدائد وتنسى التشاكس عند العواصف، فتهبّ من كل صوب ومكان، وتتخلّى عن شغلك ومصنعك وتندفع بكل قوّتك حيث تلتقي ببعضك بعضا في صف واحد، صف الشعب الموحّد الهدف والكلمة، صف الأمة المكافحة، صف الحق المدافع عن كيانه والمناضل في سبيل تحريره. فلتحيا تونس وأنت متّحد بأميرك ووزيرك وقائدك وفلاحك وتاجرك وعاملك وموظّفك وصانعك وطالبك، وكبيرك وصغيرك، رجالك ونساؤك، وطبيبك وأستاذك، جاهلك وعالمك، شيخك وشبابك، غنيك وفقيرك. لتحيا تونس إذ تقف بجميع أفرادك وطبقاتك جنبا إلى جنب مستعدّا للطوارئ، صارخا على صمتك في وجه العدو بما فيك من ايمان وثقة في نفسك صرخة تذهل النفوس المعتدية وتزعزع أركان الظلم والجبروت، فيتقهقر الخصم وهو محتار لا يميّز طريق النجاة من سبيل الهلاك.
«فبتضامنك فرضتَ احترامك وبوحدتك ذلّلْتَ الصعاب وبتضحيتك عبّدت طريق النصر وبمثابرتك خذلت العدو وصيرته فاقد الرشد والصواب لا يدري أين المصير. فلقد انقضى ذلك العصر الذي تنقسم به الأمّة عند الكوارث، فيرتع الخصم ويرتاح باله ويكيل الوعود لمن يريد التقرّب ويدوس إخوانه في محنتهم لينال رضى الطاغي المتجبر. ولقد انقضى ذلك العصر الذي لا يحسّ فيه التونسي بآلام غيره ولا يهمّه من أمر الدنيا الاّ ما يعود على شخصه بالغنيمة مهما كان مأتاها. فلقد استبدل شعبنا ذلك العصر بحياة مشتركة في السرّاء والضرّاء وأصبح يشعر بأن نجاح الفرد وسعادته في سعادة الجميع وعزّته الشخصية في عزّة بلاده ووطنه وكرامته البشرية في كرامة أمّته واحترام كيانها وسيادتها؛ وأصبح الأمير يلتقي مع أبسط الأجراء عند المصاب لأنّ السهم موجّه في الحقيقة إلى جميعنا فنجابه الخطر في وحدة شاملة حيث أنّ الذي أصابه السهم هو أحدنا.
«فأحبّك وأخلص لك العمل. وان دمت هكذا متّحدا فو الله لن تغلب أبدا. فتحيا تونس ويحيا شعبها الأبي، إذ هو لا يموت اليوم ليحي الوطن، بل يعيش ويعيش لتحيا تونس!»
* ديبلوماسي و كاتب.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
شارك رأيك