تعكرت الأمور داخل الجبهة الشعبية مؤخرا بشكل لافت وغير مسبوق، وانفرط عقد الإئتلاف اليساري الذي كان في وقت قريب جدا يتزعم المعارضة بمجلس الشعب ب 15 نائبا، ليتشتت “الرفاق” ويتفرق شمل “إخوة الكفاح” الذين إجتمعوا في الماضي حول قيم وأهداف راقية في مفهومها المطلق وقد تكون هلامية وعديمة الجدوى في واقعها البراغماتي المادي.
بقلم سنيا البرينصي
إنفرط إذن عقد الجبهويين في فترة دقيقة جدا تستعد فيها أغلب مكونات المشهد السياسي لخوض الإنتخابات التشريعية والرئاسية خلال أشهر قليلة من الان، ولسائل أن يسأل هل كان بالإمكان تفادي هذا الإنفجار المدوي لشمل “الرفاق”؟ أم أن تفكك الجبهة الشعبية كان قدرها المحتوم بسبب الخلافات الداخلية التي تشهدها خاصة خلال العامين الأخيرين، والتي إزدادت ذروتها منذ فترة على خلفية تمسك القوى المسيطرة على مجلس الأمناء بترشيح الناطق الرسمي حمة الهمامي للإنتخابات الرئاسية، مقابل رفض حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد وبعض المكونات الأخرى والمستقلين هذا الخيار واقتراح ترشيح النائب منجي الرحوي تكريسا للديمقراطية وكسرا لكهنوتية وقدسية “الزعيم الأوحد” التي تعتنقها وتؤمن بها الأحزاب اليسارية كما اليمينية على حد السواء.
الحلم الجبهوي ضرب في “مقتل” وحزب العمال يكابر
الإئتلاف الجبهوي الذي انطلق من فكرة نظر وأسس لها الشهيد شكري بلعيد كلبنة أولى لبناء مشروع اليسار الكبير والتصدي ل “الفتح” الظلامي القروسطي للإسلاميين الذي إستهدف مدنية الدولة والنموذج التونسي بعد سقوط نظام بن علي في 14 جانفي 2011، لكن يبدو أنه، وبعد تحقيق بعض الإنجازات عقب إنتخابات 2014 وصعود الجبهويين إلى البرلمان، جرت الرياح بما لم تشتهيه السفن، أو ربما بما لم يشتهيه بعض الرفاق.
ولعله من الملاحظ أن تفكك الجبهة الشعبية كان منتظرا حتى قبل هذا التوقيت بالنظر إلى حجم الغليان الداخلي وتباين المواقف بين مكوناتها، وأساسا إحتدام الخلافات وتباعد الرؤى والتصورات بين حزبي العمال والوطد، المتعلقة أساسا باليات تطوير العمل الجبهوي والتحالفات ومستجدات الوضع العام بالبلاد.
وفي ظل هذا التشرذم الداخلي، الذي فشلت محاولات الإطفاء المتعددة في الحيلولة دونه، أتى الخلاف حول مرشح الإئتلاف الجبهوي للرئاسية والتباين الحاصل حول قائمة باردو للإنتخابات البلدية، وفشل هذا الرهان الإنتخابي البلدي لاحقا، ليكون “القشة التي قصمت ظهر البعير”، وينتهي بإعلان 9 نواب إستقالتهم الجماعية من الكتلة البرلمانية، وهي إستقالة يمكن وصفها ب “المدوية” والتي ستكون لها تداعيات خطيرة جدا إن نحن قرأناها من مختلف سياقاتها وجوانبها السياسية والبرلمانية والإئتلافية لأنها قد تمثل الضربة القاصمة، بل ضربة في “مقتل” للإئتلاف الجبهوي بالرغم من أن القيادي في حزب العمال الجيلاني الهمامي قلل في تصريحات إعلامية من أهمية هذه الإستقالات ومن حجم تأثيرها على حظوظ الجبهة في الإنتخابات المقبلة.
واعتبر الهمامي أن الكتلة البرلمانية “التي إستقال العدد الأكبر من نوابها” ليست قيادة الجبهة، ولا نعلم ماذا يقصد الجيلاني الهمامي، ومن ورائه حزب العمال، بهذا القول الذي يختزل في باطنه قيادة الجبهة الشعبية في شخص ناطقها الرسمي. ولعل هنا مكمن الداء والسبب الجوهري لإنفراط عقد الرفاق حزبيا وإئتلافيا وبرلمانيا.
كما إعتبر الجيلاني الهمامي أن النواب المستقيلين من الكتلة البرلمانية للجبهة الشعبية يمثلون الأقلية، بينهم 6 نواب ينتمون للحزبين المنسحبين من الجبهة، ولعل هذه التصريحات، أضف إليها تأكيد الهمامي أن الجبهة ستكون لها كتلة نيابية في البرلمان المقبل، لا يمكن إلا تنزيلها في خانة المكابرة السياسية والتعنت اليساري التقليدي الذي ستكون نتائجه وخيمة على مستقبل الإتئلاف لترسم له نهاية حتمية مشابهة لكل نهايات المشاريع والإئتلافات والمقاربات اليسارية التي تتعالى عن قراءة الواقع بتجرد وبموضوعية و”تتعامى” عن الإعتراف بأخطائها لترسخ بذلك مسار إنهيارها الذاتي دون جهد من أحد، ولعل في التاريخ اليساري عديد العبر، ولعل على نفسها فقط “جنت براقش”.
محاولات إستيلاء على الجبهة وإنسداد أبواب الحوار بين القيادة والكتلة
الأزمة التي تعصف بالجبهة الشعبية علل أسبابها النواب المستقيلون بإنسداد كل أبواب الحوار بين “القيادة”، أي مجلس الأمناء “الذي يسيطر عليه حزب العمال”، والكتلة البرلمانية رغم دعوات الكتلة المتتالية للناطق الرسمي للحوار.
كما أكد النواب المستقيلون، في بيان أصدروه عقب الإستقالة، أن هذا القرار كان ترجمة لواقع متأزم فرضته مكونات الجبهة التي سعت إلى الإستحواذ عليها بإصرارها على إقصاء مكونات ومناضلين منها.
في المقابل، أشار البيان إلى أن النواب المستقيلين لا يتفصون من مسؤولياتهم في ما الت إليه الأوضاع داخل الجبهة، ولعل هذا الإعتراف بالخطأ هو في حد ذاته إشارة إيجابية تحسب للنواب المستقيلين قد تمكن من إنقاذ ما يمكن إنقاذه في حال نسجت باقي المكونات الأخرى على هذا المنوال واعترفت هي الأخرى بأخطائها.
وبعيدا عن تبادل الإتهامات بين “الشقوق” التي كانت ندائية فازدادت لنا يسارية، وهي “نعمة سياسية” قد نحسد عليها، ربما، فإن الجبهة الشعبية التي نجحت في الحفاظ على وحدتها ولحمتها الداخلية طيلة السنوات الأخيرة وتصدت لكل محاولات ضربها من الخارج وتمكنت من كسب الزخم الشعبي إثر إغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي يجب أن تباشر فورا عملية الإنقاذ الداخلي، وإن تطلب الأمر إجراء عمليات جراحية مؤلمة تقطع مع الفكر المتكلس والتصفوي لبعض مكوناتها وبعض قياداتها.
على الجبهويين أن يقطعوا مع مقولات الزعاماتية الجوفاء وسياسات الإقصاء التي تنتهجها القيادة على المستويين المركزي والجهوي تكريسا لمبدأ الديمقراطية والتداول على القرار، فمن الثابت أنه لا يوجد سوى شخص الناطق الرسمي في الجبهة الشعبية رغم أنه لا يمكن لعاقل أن يشكك في القيمة النضالية والسياسية والفكرية لحمة الهمامي، ولكن ان الأوان اليوم ليفهم “الرفيق الأكبر” أنه من الضروري فتح الأبواب أمام القيادات الجبهوية من الجيلين الثاني والثالث، فبين هؤلاء أيضا قد يولد زعماء، بل أن من بينهم من يمتلك كل مواصفات “الزعيم”، وقد يحقق ما فشل الاخرون في تحقيقه، أوليس الجبهة الشعبية مشروع سياسي واجتماعي موحد وجامع لكل قياداته ومنخرطيه ولكل من يؤمن بثوابته وبأهدافه؟ فلما إذن التمسك بالزعاماتية وسياسة الهروب إلى الأمام التي لن تجدي نفعا سوى مزيد تعكير الأوضاع وستؤدي عاجلا أم اجلا إلى نسف الإئتلاف بشكل نهائي، في حين كان من الأجدى التمسك بالوحدة الداخلية للجبهة وتسفيه أحلام “الأعداء الخارجيين” المتربصين بها.
خارطة طريق للإنقاذ وتجديد الخطاب والتسيير الديمقراطي لتفادي الهاوية
وكما أشرنا أعلاه إلى أن الجبهة الشعبية تظل جزء من مسار حلم اليسار الكبير الذي أسس ونظر له الشهيد شكري بلعيد في إطار ديمقراطي تعددي وسلمي، فهذا الإئتلاف الذي ولد كبيرا و”ملأ الدنيا وشغل الناس” خلال السنوات الأخيرة لا يجب أن يتوقف على أحد لأنه ليس ملكا لأحد بل ملك لكل المؤمنين به وملك لمناضليه.
ونحن على قاب قوسين أو أدنى من الإنتخابات التشريعية والرئاسية على الجبهة الشعبية أن تتجاوز أزمتها بإصلاح أدران بيتها الداخلي عبر التسيير الديمقراطي لشؤونها وعبر تشريك جميع مكوناتها قيادة وقواعد في الحوار وفي القرار، وعلى الجبهويين أن يجددوا خطابهم ويؤسسوا لخطاب سياسي واتصالي مغاير تكيفا مع المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، لا يجب أن تبقى الجبهة الشعبية في حالة جمود سياسي وفكري يخيل للمتابعين أنها قد تكون “أبدية”، على الجبهويين أن يقطعوا مع مسار الدوران في حلقة مفرغة تبدأ من “حجرة سقراط” وتنتهي عندها.
ولأن الجبهة الشعبية مكون أساسي في المشهد السياسي الوطني وعامل محوري في توازنه نرى أن الجبهويين مطالبون بالقطع الكامل مع الصراعات المتعلقة بالتموقع والقيادة، وفي هذا الإطار نعتبر الصرخة التي أطلقها القيادي “المغضوب عليه” والمطرود من الجبهة الشعبية وحزب العمال حديثا عبد الجبار المدوري عقلانية ووجيهة.
وقد اقترح المدوري تشكيل خارطة طريق لإنقاذ الجبهة الشعبية تتمثل بالأساس في حل مجلس الأمناء وتشكيل هيئة تسييرية مؤقتة تتكون من ممثلين عن الأحزاب والمستقلين بشرط أن يلتزم كتابيا كل عضو في هذه الهيئة المؤقتة بعدم الترشح للإنتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة.
وبحسب عبد الجبار المدوري، فإن مهام هذه الهيئة تتمثل في تنظيم إنتخابات داخلية على مستوى الدوائر الإنتخابات لإنتخاب ممثلي الجبهة في الإنتخابات التشريعية المقبلة، وتنظيم إستفتاء لإختيار مرشح الجبهة للإنتخابات الرئاسية والتحضير لعقد مؤتمر وطني.
وإن تمعنا جيدا في هذه المقترحات يمكن إعتبارها إيجابية وناتجة عن قراءة موضوعية وتحليلية معمقة لكواليس البيت الجبهوي، وعلى أصحاب القرار داخل الجبهة أن يعطوا الأهمية اللازمة لهذا المقترح حتى لا يسجل التاريخ أن قيادة الجبهة، ورأسا حزب العمال والناطق الرسمي حمة الهمامي ومن يدور في فلكهما، أنهم كانوا السبب المباشر في تصدع وتفكك الجبهة الشعبية التي كانت ويجب أن تبقى مشروعا وطنيا أكبر من كل الأسماء.
شارك رأيك