هل من دليل أكبر عن عمى البصيرة دينيا وسياسيا من المهزلة السنوية لرؤيا هلال رمضان وعيد الفطر؟ إن التمسّك بوسيلة الرؤية البدائية، وهو سياسي أكثر منه ديني، يؤكد كل سنة حاجة البلاد الماسة لفهم جديد للإسلام يعيد له قدره وأنواره بعد أن حوّلته السياسة إلى ظلمات قاتمة، بل وإجرام مقيت.
بقلم فرحات عثمان *
القضية سياسية بالأساس، إذ لا تغيير للأمور طالما الإسلام السياسي، أي أهل الحل والعقد المتسلطين على مؤسسة دينية رسمية لا شرعية لها في الإسلام الأصيل، لا يقبل بحتمية تطوير فهمه المتهافت للدين رغم عزوف الناس عنه. ونحن نعاين ذلك في العدد الكبير للمسلمين الذين لا يصومون ولا يفطرون أخذا بقرار دار الإفتاء الرسمية، بل حسب معتقدهم الخاص.
هذا هو الصحيح في دين لا كنيسة فيه ولا إكليروس، أي الإسلام السني، حيث لا تحكيم إلا للقناعة الخاصة بالتقوى الصحيحة، وهي في إيمان القلب وحسن النية. لذا، بلا أدنى شك، أبسط تغيير للوضع الحالي المزري للإسلام مرتهن بالارتقاء بالسياسة من التهريج الحالي إلى تصرف عقلاني بصير بالأمور.
عمى البصيرة الديني:
حتما، بالنسبة على الأقل لأصحاب النهى والنيات السليمة، لا مجال لتواصل العمل بوسيلة الرؤية البدائية التي تناقض روح الإسلام الذي أعلى أي علاء من قيمة العقل وضرورة تحكيمه. فبدعوى التمسك بما إعتاده السلف، يتصرف أهل الحل والعقد عندنا تماما مثل أهل الجاهلية الذين رفضوا الدعوة المحمدية باسم ما عهدوه من آبائهم. فكل شيء في القرآن يحث على إعتماد رؤيا القلب والبصيرة لا رؤية العين، أي اللجوء للعلم ومكاسبه. أما الإدعاء بالتمسك بحديث للرسول للإعتماد على العين المجردة، فإلى متى ننقض بالسنة ما يفرضه آي القرآن بكل وضوح من ضرورة إحكام العقل والأخذ بالعلم وما تأتي به المعرفة، أي ما تحتّمه هنا العلوم الفلكية؟ إننا بذلك نجعل من رسول الإسلام إلاها، بينما هو بشر من شأنه الخطأ في أمور الدنيا؛ فأي فرق عندها بين الدين القيّم والنصرانية؟ ألسنا نطبّق حينها تعاليم هذا الدين من خلال ما رسب منه من إسرائيليات وقد غزت الفقه الحالي، لا تعاليم الحنيفية المسلمة؟
لذا، لا مجال للإبقاء على الفقه المعمول به رسميا؛ فلئن صلح لزمانه، ما هو بصالح لحاضرنا، يقتضي الإجتهاد من جديد إعتمادا على مقاصد الشريعة؛ فها هو إجتهاد السلف في أيدي المجرمين من أهل داعش وغيرها، باسمه يُقتل البريء ويُعتدى على المسالم؛ هل هذا الإسلام السلام الذي أتى رحمة للعالمين؟
إننا اليوم لا نأخذ بالقرآن وبما جاء فيه من أخلاقيات ومبادئ سامية، بل بما حصل لنا منه من قراءة أكل عليها الدهر وشرب.
رغم ذلك، يحرص أهل الإسلام الرسمي على التمسك بها وفرضها على المؤمنين، لا إحتراما للدين، بل خدمة لمصالحهم السياسية بالمتاجرة الدينية والمغالطة لمن يعتقد عن حسن نية العمل بالقرآن. إنّه لا يعمل إلا بمفهوم له غير إسلامي صميم، تأتّى من قراءة خاطئة لم تعد صالحة لفسادها مع الزمن، إذ ليست هي من الحكمة الإلهية، بل تنقضها من الأساس باسم فهم بشري يبقى ضرورة ناقصا، ليس له أن يرتقي، ما بل بحر صوفة، إلى مستوى الحكمة اللدنية كما تبيّنها القراءة المقاصدية للشريعة وما يمكّن الإجتهاد من الإقتراب منها. لذلك حتّم الإسلام ضرورة الإجتهاد المستدام الذي لم يُغلِق بابه إلا أهل السياسة وفقاء البلاطات لما في غلقه من مصالح للحفاظ على نفوذهم من صولة الحق وسورة الأخلاق الصحيحة.
عمى البصيرة السياسي:
القرآن هو ما يُقرأ، ولا قراءة حقيقة إلا بإعمال العقل، وإلا فهي من باب الإجترار، ولا خير فيه إلا للبقر أو أمثال الدواب من البشر، الصم البكم عن نداء الضمير، العُمي عن أفضل ما أعلى الله به إبن آدم، عقله وبصيرته.
هكذا هي حال أهل الإسلام الرسمي منذ خيّم الإنحطاط على العقل العربي. فبعد إنقراض الحضارة الإسلامية التي بدأ غروبها مع غلق باب الإجتهاد إثر محنة العقل الإسلامي المتمثلة في قضية خلق القرآن، لم نعد نعرف ما هو الصحيح من ديننا وما هو الخاطىء، ما أوحاه الله وما فهمه البشر أو تأولوه واختلقوه؛ فاختلط الحابل بالنابل إلى حدّ تمكين أعداء الإسلام من توطئة الفقه الإسلامي للإجرام، كما نرى الحال اليوم مع الجاهلية الداعشية.
الأمثلة عديدة في حياتنا اليومية على عدم معرفتنا للدين الصحيح، بل ومدى تلاعبنا به، كما نفعل بالرؤية في الأهلة. فبالإضافة لداعش التي توظف الدين للإجرام، كم من مسلم دعيّ عندنا يعتقد العمل بروح الإسلام حين يرفض المساواة في الإرث بدعوى فهم بشري ناقص لنص قرآني، أي قراءة بشرية إدّعت معرفتها النهائية للحكمة الإلهية رغم ما فيها من نقص بالضرورة، خاصة وأن مقاصد النص القرآني تبيّن قطعية المساواة لا للعكس.
والأمثلة لا تُعدّ للمسخ الذي لا يزال يطال ديننا الإناسي كتحريم الخمرة، في حين ليس في القرآن إلا تحريم السكر خاصة عند القيام للصلاة، أو تحريم المثلية بينما لا تجريم لهذا الجنس الطبيعي ولا تحريم له في دين القيمة، إذ لم يستند الفقهاء في التجريم الذي لا زلنا نعمل به إلا على الكتاب المقدس الذي يعتبر هذا الجنس غير طبيعي بينما أقره الفرقان كفطرة في بعض البشر وفي الطبيعة.
وتبقى المساواة في الإرث، طبعا بدون أدنى شك، أبلغ الأمثلة على تمسك المسلمين الأدعياء بالإسرائيليات في تقزيم حق الأنثى دون الذكر رغم أنه لا فرق بين الإثنين في الإسلام إلا بالتقوى؛ لقد إختلقوا أسطورة قطعية النص، وما يؤكد خور هذه المناورة الذكورية عدم تطبيقها إلا في ميدان الإرث دون غيره، مثل قطع اليد للسرقة وقطع الأيدي والأرجل من خلاف عند الحرابة.
إن أهل الإسلام لا يأخذون حقا بالقرآن، بل هم يعملون بالكتاب المقدّس اليهومسيحي إعتمادا على قراءة ناقصة وسياسية إختلقت الكنسية الإسلامية التي لا شرعية لها البتة في دين محمّد. فالفقه الإسلامي، أو الشريعة الإسلامية، قراءة بشرية للقرآن، وليست الإسلام الذي لا يعتمد على الفهم البشري للقرآن بل على مقاصده، وهي في تطور لا ينتهي لنقصان العقل وتطوره المتواصل. بذلك وفي أفضل الحالات، الفقهاء عندنا، كما قالها الشاعر المثلي الفذ، علموا شيئا وغابت عنهم أشياء من دينهم، ممّا أضاعه حتي تصبح هذه الغربة التي نبّه إليها الرسول وحذّر منها. فعلوم الإسلام، ككل العلوم، لا مجال لتحنّطها، لأنها لو صحت زمنا، لا شيء يمنعها من التطور مع الحادث الطارىء الذي من شأنه أن يقلب الأمور رأسا على عقب، فإذا حقيقة الأمس كذبة الغد وباطل اليوم حقيقة الغد؛ كذا هي الحقيقة العلمية التي تعتمد البرهان والتدليل العقلي؛ فكيف لا نجد هذه الخاصية المكينة في علوم الدين الإسلامي وهي الحق الأزلي؟
هذا ما يرفضه أصحاب التجارة الرخيصة في الدين، وعلى رأسهم أهل توطئة الإسلام سياسيا، إذ كل تطور في الدين يعاكس مصالحهم، فيمنهم من للإدّعاء على الله ما لم يأت فيه بحكم، أو التبجح بفهم شخصي على أنه الحقيقة العلمية. وليس ذا بالجديد، إذ بدأ منذ بداية الإسلام، فاختلق بعض أهله الحديث والسنة، لا لمطابقتهما مع مقاصد القرآن، بل لتوظيف القرآن للأغراض البشرية، مستغلّين خاصية هذا الدين حيث لا مجال فيه للتفريق بين الإيمان والسياسة، إذ الإسلام بطبعه دين وسياسة، إيمان روحاني وسياسة مدنية؛ على أن هذا لا يعني الخلط بل التفريق التام بين المجالين الخاص والعام.
نتكلم في هذا وفي ضرورة صيانة الوحي الأصيل في أحاديث قادمة لتمييز الإسلام في قراءة صحيحة مما شابه من لخبطة قيمية متأتية من فهم بشري خاطىء، الإسلام اليهومسيحي الراسب من الإسرائيليات، بما أننا تركنا الفرقان للأخذ من الكتاب المقدس كما تبينه العديد من قوانينيا المدعية كذبا الصبغة الإسلامية بينما لا تملك منها ولا نقيرا.
* ديبلوماسي سابق و كاتب.
مقالات انفس الكاتب بأنباء تونس :
شارك رأيك