بعد فترة قصيرة على تنصيب المجالس البلدية المنتخبة في ماي 2018، كان المواطن ينتظر بفارغ الصبر إنجازات هذه المجالس ووعود الرخاء للحكم المحلي الموسع ولكن عوض ذلك هبّت عاصفة من الإستقالات بالعديد من المجالس بمختلف ولايات الجمهورية مما يثير عديد الأسئلة حول تأثير الإختلافات الحزبية والسياسية على هذه المجالس وتسييس قراراتها.
بقلم فوزي عبيدي
مثّلت الإنتخابات البلدية محطّة مهمة في إستكمال مسار الإنتقال الديمقراطي وكانت هناك آمال كبيرة على أن تكون الإنطلاقة الفعلية للنهوض بالجهات وتوفير الخدمات الأساسية في الحياة اليومية للمواطنين التي عرفت خللا كبيرا وفوضى عارمة عقب الثورة إلا أنه سرعان ما تبيّن أن موجة الإستقالات التي تشهدها عديد المجالس البلدية وتواترها في الآونة الأخيرة مما جعل المجالس البلدية تتساقط تباعا كأحجار الدومينو مما يثير عديد الأسئلة حول تأثير الإختلافات الحزبية والسياسية على هذه المجالس وتسييس قراراتها من خلال تأثير الهياكل الحزبية العليا على ممثليها في هذه المجالس المنتخبة والإنعكاس السلبي لذلك على مصالح المواطن و التنمية المحلية.
صراع سياسي يطيح بالمجالس البلدية
بعد هذه الفترة القصيرة على تنصيب المجالس البلدية المنتخبة، كان المواطن ينتظر بفارغ الصبر إنجازات المجالس البلدية ووعود الرخاء للحكم المحلي الموسع ولكن عوض ذلك هبّت عاصفة من الإستقالات بالعديد من المجالس البلدية بمختلف ولايات الجمهورية ولم تقتصر هذه الإستقالات على لون سياسي واحد بل شملت جميع الأحزاب السياسية بمن فيها الأحزاب الكبرى الحاكمة كالنهضة ونداء تونس وأحزاب المعارضة كذلك كالجبهة الشعبية والتيار الديمقراطي وقد كانت جميعها في شكل ممنهج واحد وهو تكتل سلبي من قبل الأقليات بالمجلس البلدي ضد رؤساء البلديات وذلك بفرض حل المجلس البلدي من خلال تقديم الإستقالات من طرف تكتل الأحزاب الأخرى الممثلة في المجلس البلدي.
عند تقديم الإستقالات ذهب الجميع إلى تبرير ذلك بعدم التناسق بين أعضاء المجلس البلدي والإختلافات الحزبية داخل المجالس البلدية التي عرقلت عملها ولكن في حقيقة الأمر حصلت هذه الإستقالات في سياق صراع سياسي محتدم بين الأحزاب على خلفية قرب الإنتخابات الرئاسية والتشريعية وبحث جميع الأحزاب على ضرب المنافسين من خلال إفقادهم ورقة مهمة وهي إشعاع المنصب المحلي لرئيس البلدية وما له من دفع معنوي في جذب الناخبين لصالح الأحزاب التي ينتمي لها رؤساء البلديات كما تريد بعض الأحزاب من خلال هذه الإستقالات تسجيل نقاط إنتخابية على حساب الأحزاب الحاكمة من خلال تكريس صفة الفشل لهذه الأحزاب في تسيير الشأن المحلي وهو ما يفسره الحجم الكبير للإستقالات فرغم أن هناك القليل من الإستقالات المبررة كالتي حصلت في المجلس البلدي بباردو نتيجة الأخطاء الكارثية لرئيسة البلدية ولكن الأغلبية الساحقة من الإستقالات غير مبررة فعليا بل هي مجرد جولة أخرى لصراع سياسي يتجدد كلما إقترب إستحقاق إنتخابي. للملاحظة أن الفقرة الثانية من الفصل 205 من مجلة الجماعات المحلية تنص على الإنحلال الآلي للمجلس البلدي في حالة الإستقالة الجماعية أو الإستقالة المتزامنة لأغلبية أعضائه وتُوجّه الإستقالة في هذه الحالة إلى الوالي المختص ترابيًا ويعتبر المجلس منحلًا بانقضاء 15 يوما من إعلام الوالي.
بعد ذلك يتولى الوالي لاحقا إعلام كل من الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات والمجلس الأعلى للجماعات المحلية لتنظيم إنتخابات جزئية وتتولى بموجب الفصل 207 لجنة مؤقتة تسيير البلدية يقع تعيين أعضائها بموجب أمر حكومي وتعمل لمدة أقصاها 6 أشهر قابلة للتجديد مرة واحدة حتى تنظيم إنتخابات جزئية في الجهة وفق مقتضيات القانون المتعلق بالإنتخابات والإستفتاء الذي ينص على تنظيم إنتخابات جزئية في اجل أقصاه 90 يوما من إنحلال المجلس البلدي.
إثقال كاهل الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات
هذه الإستقالات المتزامنة وفي هذا التوقيت بالذات جعلت الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات في وضعية لا تحسد عليها وهي تستعد لتنظيم الإنتخابات الرئاسية والتشريعية بعد أشهر قليلة مما جعلها تعبر عن إستنكارها لتواتر الإستقالات الجماعية لأعضاء المجالس البلدية المنتخبة في هذا التوقيت بالذات حيث ستساهم في تشتيت تركيز العمل اللوجستي لهيئة الإنتخابات على إنجاح الإنتخابات القادمة وعلى الصعيد المالي ميزانية 2019 مخصّصة للإنتخابات التشريعية والرئاسية، وكل عملية إنتخاب تقع الآن تكلّف الهيئة أموالا كبيرة تتكبّدها ميزانية 2019، مبينا أن كلّ عملية إنتخاب تكبّد الميزانية خسائر مالية بقيمة 50 ألف دينار على الأقل وهو ليس بالمبلغ القليل.
من ناحية أخرى يستحيل التوفيق بين الإنتخابات الجزئية البلدية وبين التشريعية والرئاسية خاصة إذا إنطلقت الهيئة في هذه الفترة القادمة في قبول الترشّحات والبت فيها مع الوصول إلى أصعب مرحلة وهي الحملة الإنتخابية ومراقبة تمويلات الأحزاب.
لذلك من المنتظر أن يكون قرار مجلس هيئة الإنتخابات عند أول إجتماع له بخصوص هذه الإستقالات بتأجيل كل إنتخابات جزئية إلى ما بعد الإنتهاء تماما من الإستحقاق الإنتخابي لسنة 2019 وبذلك تكون عملية الإستقالات الجماعية فاشلة إلى أبعد حدود بإعتبارها لم تستطع تحقيق أهداف الأحزاب بتسجيل نقاط إنتخابية بل أثارت حفيظة المواطنين الذين تضرروا من هذه الوضعية المربكة للعمل البلدي.
حياد بعض رؤساء البلديات عن الحوكمة المحلية
صحيح أن أغلب الإستقالات من المجالس البلدية كانت لدوافع تنم عن تصفية حسابات سياسية ضيقة ولكن هنالك أيضا عديد رؤساء المجالس البلدية الذين حادوا عن التصرف الرشيد في الصلاحيات الواسعة من الناحية القانونية والمادية التي خولها لهم القانون فدخلوا في الخصومات الشخصية والداخلية بسبب المناصب والخطط على حساب مصالح المواطن. فبعض رؤساء البلديات غالطته هذه الصلاحيات الموسعة فمن منهم من قام بتحويل إعتمادات مبرمجة لمشاريع تنموية كرئيس بلدية صفاقس الذي قام بتحويل المبالغ المخصصة لمصب مراقب لكي يستطيع شراء سيارة فخمة خاصة بتنقلاته وهو ما أثار سخط مواطني مدينة صفاقس. كذلك ماتم في بلدية سكرة حيث إتهم الأعضاء المستقيلون رئيسة المجلس بالإستحواذ على سيارتين إداريتين للإستعمال الشخصي رغم عدم موافقة المجلس على منحها سيارة بسبب ضعف الميزانية .
اللامركزية الجهوية لتجسيد التنمية المحلية
على المستوى النظري مثلت الصلاحيات الواسعة التي أعطيت للمجالس البلدية ضمن مبدأ اللامركزية القاطرة الفعلية للتنمية المحلية فقد خصّص الدستور التونسي الجديد الصادر في 27 جانفي 2014 بابا كاملا من أبوابه للسلطة المحلية وهو من أهم أركان النظام السياسي الجديد الذي تم تركيزه حيث تم منح السلطة المحلّية قوة قانونية وأدبية صريحة وغير مسبوقة في البلاد، التي أصبحت السلطة الرابعة في ترسانة السلطات الدستورية وقد ضبط القانون الأساسي عدد 29 لسنة 2018، المؤرّخ في 9 ماي 2018 والمتعلّق بمجلّة الجماعات المحلّية المبادئ والقواعد والتراتيب الكفيلة بإرساء وتنظيم هذا الحكم، واحتوى على تفاصيلَ عديدة وتدقيقات شاملة حول صلاحيات هياكل السلطة المحلّية في إطار اللامركزية والديمقراطية التشاركية، وكيف أن هذا المنوال التنموي كفيل بتطبيق سياسة الدولة الهادفة إلى تحقيق التنمية الشاملة والمُستدامة، وتوفير حظوظ متساوية لجميع جهات الجمهورية في النماء وفي تسيير الشأن المحلّي والجهوي وفي وضع أسس الثقة بين السلطة المركزية والهياكل الجهوية والمحلّية من خلال تشريك المُواطنين في إدارة شؤونهم في إطار تشاركية فعّالة ولامركزية حقيقية ترتكزان على مبدإ اعتماد مشاركة المواطن المُباشرة في الشأن العام.
نمط قانوني وتصرف محلي مستجد على العقلية التونسية
إعتماد اللامركزية بصلاحيات واسعة في التصرف القانوني والمالي للمجالس البلدية وضع أسس مقاربة جديدة لكن هل هذا الإصلاح قابل للتنفيذ والتطبيق؟ وهل أن دواليب الإدارة التونسية على مستوياتها الثلاثة المركزي، الجهوي والمحلّي قادرة على إستيعابه وهضمه بالسرعة والنجاعة المطلوبتين لبلوغ الأهداف المرسومة التي أرادها المشرّع؟ خاصة ان هناك العديد من التحديات والصعوبات التي ظهرت في التطبيق الفعلي لهذه المنظومة المحلية فالإستقالات كانت منتظرة لأنه ليست لدينا الخبرة ولا التقاليد في الحوكمة والديمقراطية المحلية.
إضافة لذلك أصبح من الواضح أن جل البلديات التي تم إحداثها في السنوات الأخيرة تعاني أزمة خانقة بسبب نقص الموارد المالية والبشرية وبان هناك عدة بلديات تم التسرع في إحداثها فهي في الأصل تم إشتقاقها من بلديات أكبر كما أن بقية البلديات القديمة تعاني من هيمنة نفقات التسيير وبخاصّة مصاريف التأجير (أكثر من %60 من الميزانية)، وثقل المديونية، وضعف نسبة التأطير (%11)، وضعف الخدمات المسدات للمواطنين، وتنامي عدم الرضا من العمل البلدي، وهيمنة الروتين والبيروقراطية، يُضاف إلى ذلك أنّ المجالس الجديدة المنتخبة تفتقر في أغلبها إلى الخبرة والتجربة، وجلها تتجاذبها الخلافات السياسية.
من ناحية أخرى برزت عدة تباينات على مستوى التنسيق الجهوي خاصة مع السلطة الجهوية المتمثلة في الولاة فالقانون الجديد جعل العلاقة بين ممثل السلطة المركزية (الوالي) ورؤساء الجماعات المحلية مبنية أساسا على علاقة أفقية وليس على علاقة إشراف وهذا الوضع غير المسبوق سيجعل الخلافات التي ستحدث بين الطرفين فيما يخص القرارات التسيرية للشأن المحلي والجهوي من أنظار المصالح الجهوية للمحكمة الإدارية، ممّا سيتسبّب في تعطيل بعض الأعمال وإهدار المجهودات والوقت في التقاضي.
شارك رأيك