السياسة بلا أخلاق من تبليس إبليس، تُصبح الخيانة فيها لعبة عند شياطينها، تزّيف فيها كل ما يخدم أغراضها، بما في ذلك إدعاء الالتزام بالقانون وحتى بتعاليم الدين. والخيانة اليوم للشعب في بلادنا هي في عقد الإنتخابات التشريعية والرئاسية قبل موفّى هذه السنة باسم إحترام الدستور، بينما هو بذلك يُغتصب ويُنتهك، فيُنسف من الأساس نصه وروحه.
بقلم فرحات عثمان *
الإحترام النزيه للدستور، دون رياء وبلا خداع، أي التصرف الأخلاقي الذي يفرضه القانون ويحتمه الدين الذي ندّعي التمسّك بتعاليمه، يقتضي الإلتزام بالأهم فيه، أي تفعيل أحكامه التي بقيت حبرا على ورق، لا الحرص على الثانوي – وإن كان مهمّا – أي التاريخ المحدد للإنتخابات. فالعملية الإنتخابية ليست إلا التكريس لدولة القانون التي لا وجود لها بعد، بما أن البلاد لا زالت تحت نير منظومة الديكتاتورية القانونية.
لذلك، عقد الإنتخابات قبل موفى هذه السنة، ولئن ورد تاريخه بالدستور وظن أهل الغباء وجاهة إحترامه أيا كانت الظروف، لهو بحق الخيانة الموصوفة للتطلعات المشروعة للشعب. وهي في ذات الوقت النسف الصارخ لما يفرضه الدستور من الإنتقال الديمقراطي المنشود مع الإستيفاء المتحتّم والعاجل، قبل أي محطة إنتخابية، لأهم ما يقتضيه من إبطال لمنظومة العهد البائد القانونية وإرساء المحكمة الدستورية.
خيانة الشعب والبلاد:
لنسأل من يتبجح بضرورة الإنتخابات هذه السنة: هل يُعقل أن نفكّر في إستحقاق إنتخابي والشعب تحكمه قوانين العهد البائد وهي سارية المفعول رغم إبطالهما دستوريا؟ وهل يعقل أن تتم إنتخابات نزيهة وشفافة ببلاد يطبّق القضاة اليوم فيها قوانين غير شرعية، لاغية بمقتضى حرف وروح القانون الأعلى للبلاد؟ أليست من الخيانة إستباحة أهم ما يفرضه على الجميع من ترتيبات أساسية لإقامة دولة القانون هذا الدستور الذي ندّعي إحترامه باسم ترتيبات ثانوية فيه؟ إن من يحتمي بالدستور الذي من واجبه إحترامه وتطبيقه بحذافيره، وبالأخص في أهمها، ليخون حقا بلاده وشعبها وذلك بالحرص على الثانوي مما يقول به الدستور، أي عقد الإنتخابات هذه السنة، وتجاهل الأساسي والأهم، وهو تفعيل الدستور بخصوص إبطال قوانين العهد البائد التي ألغاها قانونا وإقامة المحكمة الدستورية التي يرفض العديد إرسائها رغم مرور الآجال القصوى لدخولها حيّز النشاط.
ولنسأل هؤلاء: هل الإنتخابات أهم من دولة القانون؟ بل ما قيمة الإنتخابات في دولة بلا قانون، ما دامت العديد من قوانينها أصبحت باطلة؟ إن الإستحقاق الإنتخابي الذي يتغنّى الساسة بصفته الديمقراطية ليس إلا ورقة التين التي تخفى عوراتهم، وهي تكالبهم على الحكم وحرصهم على التصرف فيه على هواهم بالحفاظ على النصوص القانونية الجائرة للديكتاتورية. ألسنا بهذه الصفة دوما في نفس الديكتاتورية السابقة بدون أي تغيير فيها سوى الديكتاتور، بما أن الكل يعلم أن النظام الجائر لم يكن قائما إلا بالنظام التشريعي ونصوصه المخزية الذي لا تزال إلى اليوم؟ فأي خيانة أكبر للبلاد وللشعب؟
خيانة الدستور:
لئن حدد الدستور تاريخ الإستحقاق الإنتخابي الذي يحرص البعض اليوم على تطبيقه، فذلك في نطاق إقامة دولة المؤسسات وبعد تحديد تواريخ أهم من الإنتخابات نفسها، على رأسها إرساء المحكمة الدستورية، نواة دولة القانون بلا منازع. هذا ما لا يقبل به كل من سعى، عن قصد أو غير قصد، لخيانة بلده وشعبه، ممن همّه النفوذ والمصالح التي يأتي بها الحكم ولا شيء غير ذلك من تحقيق مطامح التونسيين في العدل والحصول على حقوقهم وحرياتهم كاملة.
فهي لا تزال منقوصة، إن لم نقل منعدمة؛ وهذه خيانة عظمى لدستور أتى بحقوق وحريات تقطع مع عهد الظلم.
إن من يسعى، باسم الديمقراطية والدستور، لاحترام التاريخ المعيّن لعقد الإنتخابات التشريعية والرئاسية ولا يحرص على إحترام التاريخ الأهم، أي إرساء المحكمة الدستورية، لا تهمّه حال البلاد الرازحة تحت نير القوانين المخزية للعهد البائد المنافية للعدل والديمقراطية. بل إنهم لا ينوون بتاتا الديمقراطية، تماما مثل النظام السابق الذي اختزلت ظلمه قوانينه. فلئن أفرزت تلك القوانين المقزمة للشعب بتونس دكتاتورا واحدا، فهي ببقائها أفرزت دكاترة عوّضت بن علي، لوبيات فساد وأصحاب عنتريات ليس من مصلحتهم إبطال منظومة القوانين الجائرة بما أنها تتمعش منها.
ومن خيانة الساسة للدستور أيضا أنه لا يُعقل أن تتم إنتخابات نزيهة في الوضع الحالي السانح لجميع التجاوزات. هذا خاصة وأنه لم يتم بعد الفراغ من تصفية التجاوزات الماضية، وليست هي هيّنة، إذ منها جرائم قتل وتنـظيمات إجرامية مناهضة للديقراطية، لعلها تكون من تلك التي عُرفت بنقابات الإجرام syndicat du crime، ما من شأنها أن تكون اليوم نقابات إرهاب. فهل هو المقدّر على تونس وشعبها المسالم؟ أليس أفضل الوسيلة لحفظها من هذا المصير التعيس إحترام الدستور في أهم ما فيه وعدم الإكتفاء بخيانته بدعوى التظاهر باحترامه؟ أليس هذا ما كان يقوم به النظام القديم: النفاق والرياء؟
المسؤولية لا الخيانة :
لعل السؤال الأهم الذي لا بد من طرحه على من له مسؤولية البلاد، وممن يتبجح بالقطع مع الديكتاتورية، هو الآتي: هل من المعقول والمقبول بقاء البلاد، بعد سنوات ثماني من سقوط النظام السابق، تحت منظومته التشريعية؟ إلى متى هذه الخيانة العظمى لاستحقاقات الشعب الحقيقية ومطامح ثورته المتمثلة في إقامة دولة القانون بمؤسساتها الأهم، لا الإكتفاء بهيئات ثانوية تعمل في محيط غير قانوني وجائر، وانتخابات لا ثقة عندنا في نتائجها؟ إن المسؤولية الحقيقية تحتم النأي بالنفس عن أي شبهة خيانة وهي اليوم أن الإستحقاق الإنتخابي ليس أهم من أهم الإستحقاقات، أي قيام دولة القانون.
ثم إنه ليس من شأن العملية الإنتخابية تعويض ضرورة الحصول أولا على الحقيقة، كل الحقيقة، حول الجنايات التي ذهبت ضحيتها أرواح بريئة؛ فليست هي فقط جرائم القتل الحاصلة تحت عهد “الترويكا” الإسلامية وجحافل الجهاديين المرسلة لساحات القتال باسم الدفاع عن الدين. هي أيضا الجنايات المرتكبة قبل وبعد سقوط الديكتاتور على أيادي خفية عُتّم على هويتها بينما تعددت الإتهامات على أنها تنظيمات سرية عملت وتعمل في الخفاء لأجل مصالح بعينها تتشبث بالحالة الراهنة بالبلاد في عدم االفراغ من إرساء المحكمة الدستورية ورفض الشروع حثيثا في إبطال كل القوانين المخزية الباطلة دستوريا.
كل هذا، إضافة للمهالك التي تستهدف أمن تونس من الخارج ومن الداخل، يمثّل الخطر الداهم المهدد لكيان البلاد وأمنها واستقلالها، مناط الفصل 80 من الدستور الذي يتعيّن على كل مسؤول بتونس اللجوء إليه دون أي تردّد، وبخاصة الأول فيها المؤهل لذلك دستوريا: رئيس الجمهورية. فهل يتنكر رئيس البلاد لماضيه في خدمة تونس بالعزوف عن واجباته الدستورية اليوم؟ أليس إنقاذ تونس بتفعيل الفصل 80 من الدستور الواجب الأكيد الأوكد لرئيس الجمهوية في الظرف الراهن؟
ولئن سهى رئيس الدولة عن واجبه هذا، أليس متحتما على رئيس الحكومة، الرأس الثاني للسلطة التنفيذية، دق ناقوس الخطر الداهم والتنبيه إلى ذلك بحث مجلس نواب الشعب على ضرورة إرجاء المسار الإنتخابي إلى ما بعد الشروع في الإصلاح التشريعي المستعجل للقوانين اللاغية وإرساء المحكمة الدستورية؟ فكيف تقبل السلطة التشريعية بأن يتواصل بتونس تطبيق نصوص مخالفة للدستور، ناقضة كل ما أراده الشعب في أحكام يصدرها القضاء باسمه؟
وكيف للنواب النزهاء القبول بمثل هذه الخيانة لواجباتهم وقسمهم لخدمة الوطن بإخلاص والولاء التام له مع الإلتزام بأحكام الدستور؟ أين هذا الإلتزام وأين الإخلاص للوطن وللشعب؟ ثم هل من المعقول أن تغض هيئة الإنتخابات النظر عن كل الخور الذي بانت خطورته؟ كيف لها أن تواصل الإستعداد لانتخابات بدعوى إحترامها لدستور أهم ما فيه يُداس، وهي تشارك في ذلك بعقدها في الوضع المزري الذي كشفنا خطورته. أليست هي بذلك تشارك في خيانة عظمى حفظ الله البلاد وأهلها وكل النزهاء منها!
* ديبلوماسي و كاتب.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
شارك رأيك