سبع مائة وستون مليون دينار تكلفة السيارات الإدارية سنويا وأكثر من ضعفها وصولات بنزين، وطابور من السيارات الفاخرة وعالية الثمن لصغار المسؤولين ثم نطالب الشعب الذي يرزح تحت أعباء الفقر والخصاصة بالتقشف والتضحية!
بقلم مصطفى عطية *
تذكرت، وأنا أعاين بٱستغراب شديد رقما مفزعا تداولته وسائل الإعلام : سبع مائة وستون مليون دينار هي تكلفة السيارات الإدارية سنويا (دون اعتبار أصول البنزين التي تصل تكلفتها إلى أكثر من ضعف هذا المبلغ )، يوم تفاجأت وأنا شاب أستعد للمشاركة في آخر مؤتمر للحزب الإشتراكي الدستوري سنة 1986 عندما إمتطى الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة سيارته الهرمة بعد إختتامه لفعاليات المؤتمر ولكنها تسمرت ورفضت الإقلاع فتدخل الوزير الأول وقتها محمد مزالي عارضا على بورقيبة مصاحبته في سيارته لكن الزعيم رفض رفضا قاطعا وفضل الإنتظار حتى يأتونه بسيارة أخرى تعود به إلى القصر.
بورقيبة كان يصر على إعطاء المثل في سياسة التقشف
لم أكن أتصور أن سيارة رئيس الجمهورية يمكن أن تصاب بعطب، ولكن زال إستغرابي عندما علمت أن السيارة كانت قديمة جدا ورفض بورقيبة إستبدالها بأخرى جديدة تطبيقا لسياسة التقشف التي إنتهجها وكان في تطبيقها المثل والقدوة !
ومازلت أتذكر أيضا يوم إلتحقت بديوان وزير الثقافة البشير بن سلامة في خريف سنة 1984، كانت سيارته المرسديس الهرمة، يكاد قدرها بالفلس مردود، وسيارة مدير الديوان البيجو 305 تتحرك على إيقاع عطب قد يحصل بين اللحظة والأخرى، أما سيارة الصديق عمار القيزاني فحدث ولا حرج وعلى شاكلتها، وربما أتعس، كانت سيارات كبار المسؤولين في الوزارة على قلة عددهم !
كانت البلاد في حالة تقشف فعلي فأمر المرحوم محمد مزالي بأن يعطي المسؤولون المثال للمواطنين في التضحية بٱمتيازاتهم التي تكفلها لهم القوانين. وتواصل التقشف على أعلى مستوى سنوات عديدة في العهد السابق فكان الضغط على مصاريف السيارات الإدارية والزيارات الرسمية للوزراء وكبار المسؤولين والمآدب التي يقيمونها لضيوفهم شديدا إلى حد الإحراج، وحتى “مصروف الجيب” الذي يعطى للمسؤولين أثناء زياراتهم الرسمية إلى البلدان الصديقة والشقيقة تقلص بشكل كبير وأصبح يخضع إلى تدقيق مباشر من الوزير الأول نفسه الذي يمضي على الأذون بصرف ذاك “المصروف” !
عنوان التقشف يجب أن ينطلق من أعلى الهرم لينزل إلى أسفله
وعندما يعود المسؤول من الزيارة قبل الموعد المحدد لحدوث طارئ من الطوارئ المفاجئة، عليه أن يعيد ما تبقى منه لخزينة الدولة حتى وإن كان بعض العشرات من المليمات! وقد تمت محاكمة محمد مزالي بتهمة (ملفقة في الحقيقة) هي عدم إعادته لما تبقى من “مصروف الجيب” الذي خصص له بعد أن قطع زيارة رسمية إلى أحد البلدان وعاد إلى أرض الوطن قبل يوم واحد من موعد إنتهائها، كما تعرض وزير كبير في العهد السابق وهو محمد الشرفي للتتبعات بسبب” إفراطه “في تكريم ضيوفه من الوزراء الأجانب وذلك بدعوتهم إلى مآدب غداء أو عشاء!
حدث كل هذا كعنوان للتقشف الذي ينطلق من أعلى الهرم لينزل إلى أسفله وليس العكس !
أعرف وزيرا جيء به من دهاليز النسيان في السنوات الأخيرة لم يبق في منصبه أكثر من سنة واحدة قام خلالها بست عشرة زيارة إلى الخارج ! وأعرف الكثير من المسؤولين الجدد الذين يهرعون منذ اليوم الأول لٱستلامهم مناصبهم إلى إقتناء سيارة جديدة وتغيير أثاث مكتبه وإعادة بنائه أحيانا !
سبع مائة وستون مليون دينار تكلفة السيارات الإدارية سنويا وأكثر من ضعفها وصولات بنزين، وطابور من السيارات الفاخرة وعالية الثمن لصغار المسؤولين ثم نطالب الشعب الذي يرزح تحت أعباء الفقر والخصاصة بالتقشف والتضحية! ألم تطلعوا على التقارير الدولية التي صنفت الشعب التونسي، أخير، كرابع أفقر شعب عربي !
* صحفي وكاتب.
شارك رأيك