العمليتان الإرهابيتان بقلب العاصمة تؤكدان أن الوضع جد خطير بتونس، إذ هي في خطر داهم يزيده خطورة تجاهل الساسة له ورفض الإعتراف به رسميا لانهماكهم في صراعاتهم الحزبية وعملية انتخابية وبال انعقادها أشد على البلاد من تأجيلها.
بقلم فرحات عثمان *
الحرص في هذه الظروف على الإنتخابات بدعوى إحترام الدستور لهو خيانة موصوفة من طرف الساسة لأمانة الشعب التي في رقابهم، وهي إقامة دولة القانون التي في انعدامها التنامي للإرهاب. طبعا، هذه الأمانة تتمثل في تفعيل الدستور في أهم ما أتى به، أي الحقوق والحريات التي بقيت حبرا على ورق، وإرساء المحكمة الدستورية التي لا يريد البعض لها قياما.
إن إنعدام الحقوق والحريات بالبلاد من الأسباب الأساسية التي تنمّي الإرهاب فيها بين صفوف شباب في أزمة خانقة لأجل قوانين عهد الديكتاتورية التي، رغم أن الدستور أبطلها، لا تزال تُطبّق. فهي تمنع هؤلاء من العيش، إذ تحرمه من أبسط حرياته. هذا يجعل بعض شبابنا لا يتردد في تفجير نفسه بما أنه فقد كل شيء، فتهون في عينيه التضحية بما أصبح لا قيمة له، نفسه التي لا تساوي شيئا. وهذه القوانين الجائرة ستتواصل في ظلم الناس، وبالتالي تنمية الإرهاب عند بعضهم، طالما لم يقع إرساء المحكمة الدستورية التي نتبين اليوم، مع مرض رئيس الجمهورية، خطورة غيابها. فهي أهم المؤسسات، ولها وحدها مسؤولية التدخل الفوري عند شغور منصب رئيس الجمهورية، وقتيا كان أو دائما؛ فأين هي؟
إن غياب المحكمة الدستورية مع بقاء الدستور حبرا على ورق وتنامي الإرهاب من أهم العناصر المكوّنة للخطر الداهم الذي فيه البلاد والذي يقتضي اللجوء للإجراء الدستوري المتعلق به والكف عن التعلل باحترام الدستور هو من الخيانة الموصوفة.
الدستور المولود ميّتا:
هناك من يصف الكلام في خرق الدستور بعقد الانتخابات هذه السنة بالهرطقة القانونية، وهو لا يعرف من القانون إلا ما يناسب مصالحه؛ وقد علمنا أن القانون من شأنه أن يخدم مصالح غير شرعية في نطاق نقابات الإجرام syndicats du crime التي ينشط فيها أحيانا أساطين أهل القانون، لا لفرض العدل، بل لاستغلال النصوص التشريعية لخرق الشرعية؛ فلا قانون لا يُخرق إذا انعدمت النية السليمة في تطبيقه وتأويله. وهي في عدم الإكتفاء بالظاهر من النص، ولا بالخاص منه، مع الحرص على الأخذ لا بروحه ومقاصده فقط، بل وبتداعياته درءًا لأي انتهازية أو تلاعب بجوهر النص القانوني، خاصة لمّا تتسربل بحلة قشيبة لكنها كذوب. ونجد هذا فيما يسمّيه أهل القانون juridisme أي خرق القانون، باسم القانون، تلاعبا ونفاقا.
فما هو الدستور الذي يدّعي احترامه من يحرص على عقد الإنتخابات هذه السنة؟ هل هو فقط الأجل المعيّن لها هذه السنة؟ سيقولون طبعا لا! إلا أنهم سيضيفون أن الإنتخابات استحقاق شعبي مهم لا يمكن التلاعب به؛ ونجيبهم أن الحقوق والحريات التي أتى بها الدستور أهم، ولا يمكن مواصلة تركها حبرا على ورق، خاصة وأن النية المبيّتة في ذلك ثابتة عند بعضهم؛ ألم نسمع يوم النشأة الرسمية للدستور من أكد أنه وُلد ميّتا؟ فكيف نحترم دستورا ميّتا؟ ألا يجب أولا وقبل كل شيء إعادة الحياة إليه؟ وكيف يكون هذا دون الحرص على ترك كل من شأنه أن يشغلنا على تفعيل هذه الحقوق والحريات في أقرب الآجال؟ لماذا، مثلا، لا يجتمع النواب في جلسات متواصلة لإبطال قوانين الديكتاتورية الباطلة التي تطبّق إلى اليوم؟ هل هم في خدمة الشعب أم في خدمة العهد البائد الذي يحرصون على دوامه من خلال منظومته القانونية؟
ثم بخصوص أجل الانتخابات، ألم يقرر الدستور أجلا آخر أهم منه، إذ فرض قيام المحكمة الدستورية فيه، فمر هذا الأجل منذ زمن دون احترامه ولا أحد تكلم وندد بهذا الخرق الفاضح للدستور بين من يتعلل اليوم بوجوب احترامه؟ ذلك لأن الأجل السالف الذكر لا يهم مصالحه، بل مصالح الشعب بما أن في إرساء المحكمة الدستورية الحرص على خدمة الشعب والبلاد بإقامة دولة القانون حقا. لذا، ليس في إرجاء الإنتخابات إلى ما بعد الشروع في الإصلاح التشريعي وإرساء المحكمة الدستورية هرطقة قانونية ولا خيانة، بل التمسك بالإنتخابات هذه السنة هو الهرطقة لمن يعرف القانون ويحترمه، وهو أيضا الخيانة، التي هي موصوفة. فمن ينصرف من الساسة عن تفعيل الدستور في أهم بنوده إلى أقلها قيمة، لينطوي على نيّة الغدر بمن استأمنه؛ من يسعى لعقد الإنتخابات هذه السنة باسم الدستور ليخون الشعب الذي استأمنه على حقوق وحريات قُبرت في دستور ولد ميّتا.
لذلك، إحترام الدستور لا يكون إلا بإحيائه من طرف النواب المؤتمنين على حقوق الشعب وحرياته لتفعيلها في قوانين نافذة يطبّقها القضاء يوميا حتى نمر من مبادىء عامة ونظرية إلى حيازة فعلية وكاملة لهذه الحقوق والحريات من طرف الشعب الذي ائتمن النواب عليها.
الخطر الداهم الإرهابي في دولة اللاقانون
في هذه الظروف التي تزيدها فظاعة الفاجعة الأخيرة، وكما أكدنا قبل العمليتين ونؤكد بعدهما، الإنتخابات هذه السنة لن تخرج الدستور من موته السريري الحالي؛ وهي مستحيلة مع حالة الطوارىء المستمرة بالبلاد والتي ليست هي، في نهاية الأمر، إلا الخطر الداهم غير الرسمي. خاصة وأن من مكوّنات هذا الخطر الداهم الوضع المزري لحقوق الناس وحرياتهم؛ فهو من أسباب الإرهاب التي لا بد من التجرؤ للإعتراف بها حتى ننجح حقا في حفظ شبابنا من مواصلة الإنزلاق في الهاوية.
إنه لا يسعي إلا لمصلحته وليس همه احترام الدستور حقا من يكتفي بصرف هذا الإحترام للمطالبة بعقد الإنتخابات ولا يطالب بالإعتراف بخطورة الوضع بالبلاد جراء بقاء أهم ما في الدستور بدون تفعيل مع الغياب المتواصل للمحكمة الدستورية وعدم إبطال منظومة العهد البائد القانونية.
كل هذا من الأسباب الأهم التي تجعل البلاد عرضة للخطر الإرهابي، وفي خطر داهم مستدام، لما يتميّز به اليوم الجيل الجديد الإرهابي من تحرر المبادرة وتنامي الذئاب المنفردة، ما يعني تحرّكا متزايدا للأفراد من الخلايا النائمة؛ علما وأن أغلب عناصر الوقود الإرهابي من الشباب التونسي العادي في كل شيء، وبالأخص في الإحباط والتوتر ومشاعر الحقد والنقمة تجاه السلطة، ومن يمثلها أو يسعى في ركابها، لتسلطها وتجبرها بقوانينها الظالمة.
هل من المعقول إنكار حالة الخطر الداهم المستهدف للبلاد، هذه الحالة التي هي مناط الفصل 80 من الدستور والذي يفرض الحل للخروج منها، بما أن حالة الطواريء سارية المفعول بالبلاد منذ مدّة، وهي تُجدّد شهريا بصفة غير قانونية لاعتمادها نصا قانونا أصبح لاغيا؟ ألم يشهّر بذلك رئيس الجمهورية معلنا رفضه مواصلة إجراء التمديد الشهري الذي دأب عليه منذ مدّة؟ هلا التزم بكلامه هذه المرة ورفض التمديد في حالة الطوارىء عند نهاية أجله ليقرر ما يتحتّم على كل وطني غيور، ألا وهو الإعتراف الرسمي بحالة الخطر الداهم؟ ففي اللجوء للفصل 80 من الدستور الاحترام الحقيقي له وللشعب، إذ أنه بذلك يفرض التئام البرلمان بصفة مستمرة مع ضرورة العمل في حدود الشهر لتفعيل الدستور فيما يخص إرساء المحكمة الدستورية وإبطال القوانين اللاغية للخروج بالبلاد من حالة دولة اللاقانون الحالية والشلل المؤسساتي الذي تعيشه.
إنه طالما بقيت الحال على ما هي، أي دستور ميّت وقوانين باطلة تتحكم في رقاب الناس، خاصة الشباب منهم، طالما تنامى الخطر الإرهابي ببلادنا؛ فلا خلاص منه إلا بفتح الآفاق كلّها أمام شبابنا المحبط. هذا يبدأ حتما بالاعتراف بحقوقه المشروعة كاملة في حياة شخصية آمنة وكريمة، لا ظلم فيها؛ فهي التي من شأنها حمايتهم من الانزلاق إلى العنف واتباع المقولات المتطرفة والمجموعات العنيفة والإرهابية. فهل لنا الجرأة أخيرا للاعتراف بأن المنظومة القانونية للديكتاتورية التي يتسمك بها حكّام البلاد خلقت بتونس شعبا ناقما وساخطا على دولة غير مؤهلة لتأطير غضبه وتوجيه الطاقات الحية فيه في اتجاه البناء لا الانتقام والعنف والإرهاب؟ وأن هذا لا يكون إلا بقانون عادل، لا القانون الجائر الذي لا ينكر طبيعته الفاسدة أحد إلا أننا لا نأتي بما يمكن الخلاص منه رغم توفر الحل. وهو اليوم في الاعتراف رسميا بالخطر الداهم المهدد للبلاد باللجوء الصحيح للدستور واحترامه حقيقة بالسعي لتفعيل بنوده الأهم في الإصلاح التشريعي والمحكمة الدستورية في غضون الأجل المقرر بفصله 80. بعد هذا، أي الفراغ من إرساء دولة القانون الحقيقة، يمكن التفكير في الانتخابات.
* ديبلوماسي وكاتب.
شارك رأيك