بعد خسارتها لأي أمل في خوض مواجهات مباشرة مع قوات الجيش والأمن التونسي بحكم قطع أجنحتها المسلحة التي تم إبادتها في السنوات السابقة وفقدانها لحاضنتها الشعبية بحكم تفكيك مئات الخلايا النائمة للدعم اللوجستي وانحسارها بسبب أعمالها الوحشية، يبدو أن المجموعات الإرهابية خاصة التي تربطها إرتباطات عقائدية بتنظيم داعش اضطرت إلى تغيير الإستراتيجية المتبعة وذلك بالإعتماد على عناصر فردية ضمن ما يعرف “بالذئاب المنفردة”.
بقلم فوزي العبيدي
“الذئاب المنفردة” هو نوع مستجد من الإرهاب المعولـم لا يقتضي بالضرورة بمعرفة شخصيّة بين من أعطى الأمر بالهجوم وبين من نفّذ العملية الإنتحارية فيمكن أن يكون الشخص الذي أعطى الأمر موجودا في سوريا أو العراق أو غيرهما يقوم بإستقطاب أفراد عبر وسائل التواصل الإجتماعي أو الأنترنات وعندما تتم السيطرة على إرادته عبر إستقطابه يتم إقناعه بصورة شبه ذاتية بالقيام بعملية إنتحارية بشكل منفرد ومعزول يصعّب على الأجهزة الأمنية إعتراض أي علامات أو إشارات على وجود مخطط التفجير بإعتبار عدم وجود أي تقاطع إستخباري يربط مع الهيكلية التي ترسمها الأجهزة الأمنية للجماعات التي تنشط في فلك التطرف والإرهاب حسب التقصي التقليدي لملاحقة الجماعات المنظمة.
الإنذار البريطاني السابق لم ينفع في وقف الهجمات
لا ننسى أنه منذ حوالي الشهرين أصدرت وزارة الخارجية البريطانية بلاغا تحذر فيه من وجود معلومات إستخبارية حول إمكانية وقوع هجمات ينوي تنظيم داعش الإرهابي القيام بها بستة بلدان من ضمنها تونس، مصر والمغرب وهذا الإنذار صادر عن أهم دولة تملك مخابرات إلكترونية ذات كفاءة عالية قادرة على إعتراض آليات التواصل بين القيادات العليا لتنظيم داعش والذئاب المنفردة المنتشرة في أقطار العالم ولكن هذا الإعتراض لا يكون بالدقة الكافية لأن إعطاء الأوامر يكون عادة بصفة عامة ومطلقة وصادر عن حسابات وهمية لا يمكن تحديد مكانها بالضبط وكذلك بالنسبة للحسابات الإلكترونية لمتلقي الأوامر بالتنفيذ لهذا تصدر بلاغات الإنذار بهجمات إرهابية بصفة عامة وهو مالم يمنع من وقوع عديد الهجمات الإرهابية بالذات بالبلدان التي شملها البلاغ كمصر وتونس.
بالنسبة لتونس فقد كانت الأجهزة الأمنية والعسكرية في حالة إستنفار قصوى ليس بحكم هذا الإنذار البريطاني فقط بل كذلك بحكم شهر رمضان المعظم وبداية الموسم السياحي فتم الزيادة من دوريات المراقبة والتمشيط للأماكن المشبوهة على تخوم الجبال التي تشهد تواجد لبعض المجموعات الإرهابية مما أدى إلى القضاء على عديد الإرهابيين كالعملية الناجحة بسيدي علي بن عون التي تم القضاء فيها على ثلاثة إرهابيين ينتمون إلى تنظيم داعش بالذات تحت مسمى كتيبة “جند الخلافة” والتي تم إستنزاف غالبية عناصرها من خلال العمليات الإستباقية لهذا تم اللجوء إلى العمليات الإنتحارية الفردية ضمن أسلوب “الذئاب المنفردة” التي تمكّن صاحبها بحكم عزلتها عن أي ملاحقة أو شبهة من القيام بعملية تفجير إرهابي بحكم عدم وجود ملاحقة أو مراقبة مسبقة على تحركاته وهو ماحدث بالفعل يوم الخميس الماضي 27 جوان 2019 من خلال العمليتين الإنتحاريتين في العاصمة.
صعوبة دولية في التصدّي “للذئاب المنفردة”
أكثر تنظيم إرهابي تماهيا وإستفادة من العولمة الإتصالية هو تنظيم داعش من خلال تعويله على إستراتيجية ” الذئاب المنفردة” التي أصبحت مفضلة له لما توفره من تخفي ومناورة من الملاحقة بأبسط الإمكانيات دون تعريض قادته في رأس الهرم للخطر لما توفرها الوسائل الإلكترونية الحديثة كالأنترنات ومواقع التواصل الإجتماعي “فالذئاب المنفردة” هو في الأصل مصطلح إستخباري يدل على قيام شخص أو أشخاص محدودي العدد غير منظمين أي لا يخضعون إلى تنظيم هرمي يستلمون منه التعليمات للقيام بالعمليات الإرهابية بل يقوم الشخص أو الأشخاص بالتخطيط و التنفيذ ضمن إمكانياتهم الذاتية وبصورة لا مركزية عن التنظيم الأساسي وعادة ما يكونوا من الشخصيات السويّة الإعتيادية في المجتمع التي لا تثير الشك المباشر في سلوكها وحركتها اليومية ليسهل القيام بالعملية الإنتحارية أو الهجوم ليقوم التنظيم فيما بعد بتبني الهجوم.
هذه العمليات تمت في أغلب بلدان العالم حيث شملت حتى البلدان المتقدمة في المجال الأمني والمخابراتي وفي عديد الأحيان حتى بوجود إنذار أمني أو إستخباراتي سابق بوجود هجوم إرهابي وشيك كالهحمات التي وقعت في الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا وفرنسا في السنوات الأخيرة حيث وقعت عديد العمليات ضمن إستراتيجية “الذئاب المنفردة” أمام عجز الأجهزة الأمنية والإستخبارية لهذه البلدان الكبرى، حيث عمدت هذه الأفراد المنعزلة إلى القيام بعمليات كشن هجمات فردية بالأسلحة الأوتوماتيكية لتوفّر هذه الأسلحة بصفة كبيرة في هذه البلدان المتقدمة وللعدد الكبير القادرة على إصابته من الضحايا المدنية أو الإعتماد على زرع قنابل ذاتية الصنع لتفجيرها عن بعد في أماكن عامة، وقد رأينا عند عدم توفر السلاح لجأت هذه الذئاب المنفردة إلى عمليات الدهس بالشاحنات الثقيلة التي أدّت إلى عديد الوفيات و الإصابات بالمدنيين.
لهذا تعتبر الذئاب المنفردة خطر أكبر من التنظيبمات المعروفة التقليدية حيث أصبحت تمثل غالبية العمليات الفتاكة الكبيرة في العام وهذا ما يثبت أنها تمثل تحد ليس فقط لتونس بل لجل بلدان العالم لذلك لا بد من تطوير آليات التصدي الأمني لهذا الإرهاب المستجد.
تطوير التعامل الأمني مع “الذئاب المنفردة ” ضروري
بإعتبار أن أعمال “الذئاب المنفردة” لا يمكن التنبؤ بحدوثها في أغلب الأحيان حتى من قبل أقوى الأجهزة الأمنية كفاءة فنيا وبشريا يحب العمل بداية قبل كل شئ على حماية ذاتية للأمنيين خاصة أنه ليست المرة الأولى التي تستهدف مثل هذه العمليات الإنتحارية الأمنيين وبالذات في وسط العاصمة بشارع الحبيب بورقيبة فمنذ أقل من عام يوم 29 أكتوبر 2018 قامت إمرأة بتفجير نفسها بإستعمال حزام ناسف تقليدي الصنع قرب دورية للأمن ومن ألطاف الله أنه لم تكن حالات وفيات بل مجرد إصابات خفيفة، حيث أصبحت الهجمات تستهدف الدوريات القارة الرابضة بشارع الحبيب بورقيبة فلا بد من الإستئناس بالتجارب الغربية التي حصلت في نفس الإشكال فيتم الإلتجاء إلى دوريات متنقلة كي لا يسهل إستهدافها عند تأمين عملها وعند الضرورة يتم وضع حواجز بمسافات معقولة تحمي الدوريات القارة يمنع منعا باتا الإقتراب منها.
من جانب آخر صحيح أن الدولة التونسية نجحت نجاحا كبيرا في مراقبة وإحباط العمليات الإرهابية التي تريد تنفيذها الجماعات الإرهابية بحكم وجود قيادة مخطّطة ومجندون للتنفيذ ولها بصمة واضحة تعرف بها وتساعد في مراقبتها إن تحركت والوصول إليها وضرب قواعدها وقياداتها لكن هذا لا يعفي من تطوير آليات التتبع الإلكتروني للعمل الإستخباري التونسي وتحليل المعلومات المتصلة بعمليات إعتراض التواصل بين الذئاب المنفردة ومناطق التوتر في العام التي تأوي زعماء التنظيمات الإرهابية لكي تستطيع الأجهزة الأمنية تفقد المعلومات الكافية التي تمنحها السيطرة والتحكم في مجريات العمليات والمسارعة بإحباطها.
كما تبرز حاجة أخرى وهي ضرورة تكوين بنك معلومات من النوع الأمني عن هذه النوعية من الأشخاص خاصة الذين تورّطوا في أعمال غير مباشرة بالإرهاب لكن مارسوا أعمالا ومظاهر دعم خفية كالتحريض عبر وسائل التواصل الإجتماعي أو شبهة التمويل والإيواء أو تواصل مع مواقع مشبوهة ولو لمرّة واحدة، فبنك المعلومات يمكّن من تحسين وإستشراف توجهات هذه النوعية الإجرامية التي عادة ما تلجأ قبل القيام بعملياتها بالتمويه من خلال الإنتقال من مكان السكن الأصلي للقاء عناصر الدعم اللوجستي في المرحلة الأخيرة قبل تنفيذ العملية أو التدرّب على القيام بالأعمال الإرهابية.
كما يبقى الدور الكبير في التصدي لهذا النوع من الإعتداءات الإرهابية للمواطن وحسّه الأمني فالتوقّي من الإرهاب هو دور موكول لجميع فئات المجتمع من خلال الإبلاغ على أي عمل مشبوه أو شراءات غير قانونية لمواد خطرة لأن المعلومة البسيطة قد تجنّب مجتمعنا ويلات كبيرة.
شارك رأيك