لخص حزب النهضة موقفه من تقرير لجنة الحريات الفردية والمساوراة في رسالة وجهها إلى رئيس الجمهورية. ولئن وعد مسؤولوه صراحة بنشرها من باب واجب إعلام الشعب بمواقفه؛ إلا أنهم لم يوفوا بوعدهم إلى اليوم؛ فمتى تنشر النهضة هذه الرسالة وتصدق القول؟
بقلم فرحات عثمان *
لا شك النهضة ما تلكأت في نشر هذه الرسالة إلا لأنها لم تكن لها بتاتا النية في الكشف عن مضمونها؛ فهذه الرسالة تعرّي البعض من الأمور المزعجة التي يحرص اليوم المتزمتون في الحزب التعمية عليها إمعانا في مغالطة الرأي العام، وبالأخص من يساندهم من الغرب في إدعائهم الكاذب بأنهم اليوم حزب ديمقراطي.
فلا يخفى على أحد أن الصفة التي يحرص الحزب على إظهارها، أي الحزب المنظم والمنتظم، بلا خلافات ولا تيارات، هي من الخداع السياسي، فهي صفة كاذبة. إن الإنقسامات داخل الحزب ما انتهت يوما، بل هي تزداد حدة إلى حد التجرؤ على مخالفة رئيس الحزب في تطلعاته أو مناوراته الديمقراطية لوضعه في موقع من ليس له إلا الإذعان لهيمنة التزمت بالحزب أو التنازل عن منصبه.
ويبدو أن الأستاذ الشيخ وجد نفسه مضطرا على مضض للقبول بالخيار الأول، مديرا ظهره لما كان عبّر عنه في رسالته إلى رئيس الجمهورية من إستعداد لفتوحات ديمقراطية بالحزب باستثناء، مؤقتا، موضوع المساواة في الميراث نظرا لحساسيته حسب رأيه. لهذا ترفض النهضة نشر رسالة أصبحت فاضحة لتلاعبها السابق.
تدعّم التزمّت بحزب النهضة
من المعلوم اليوم لمن يواكب عن كثب الحياة الداخلية للحزب الإسلامي أن المتزمتين يهيمنون على دواليبه دون منازع؛ ولعل هذا الذي حمل السيد لطفي زيتون، وهو ممن يُعتبر الوجه النيّر للحزب، إلى التهديد بالخروج منه. فها هو اليوم يستقيل من مهمته كمستشار لرئيس الحزب، أو يعرب على الأقل عن إستيائه من توجهاته الإستراتيجة التي تنافي ما كان عبّر عنه سابقا من أخذٍ بمعالم الديمقراطية.
وهذا دليل لا يُستهان به على استفحال الأمور بالحزب في اتجاهٍ تزمّتيّ أكبر، أضعف ويضعف رئيسه ورقته بخصوص ديمقراطية إسلام النهضة، ما يجعله من اليوم فصاعدا رهينة لصقور الحزب، دواعش الإسلام التونسي المقنّعين. لذا، السؤال المطروح اليوم هو الآتي: هل يرضى الغنوشي بهذا التقزيم ونبذ قناعاته الديمقراطية مع علمه جيّد العلم أن مصير حزبه بتونس يتأسس على ورقة التين هذه التي لعبها إلى اليوم إزاء الطرف الغربي، وعلى رأسه الحليف الأمريكي، إذ لا مستقبل للإسلاميين دون مساندتهم؟
الرسالة التي وجهها لرئيس الجمهورية تنزلت في هذا الإطار، حيث بيّن فيها موقف حزبه من مقترحات لجنة الحريات الفردية والمساواة، أي مناط ما يتوجب على النهضة الأخذ به للتدليل على أنه يحترم تعهداته إزاء حليفه الغربي الأكبر. ورغم أهمية الرسالة والوعد الجازم للحزب لنشرها من باب واجبه في إعلام العموم عن موقفه بخصوص أمور تهم الناس أي أهمية، وحق الشعب الإطلاع على موقف الحزب الأهم بالبلاد، لم يتم الإيفاء إلى اليوم بالتعهدات. بل وحتى رئيس الجمهورية، من باب التودد لهذا الحزب، امتنع عما كان من واجبه إعلام للعموم به، لأن القضية قضية الشعب لتعلقها بحقوقه وحرياته.
إن السبب المانع لحزب النهضة وللرئيس في عدم نشر هذه الرسالة، يتمثل في أن محتواها فيه ما من شأنه إقلاق راحة المتزمتين الإسلاميين، خاصة ما يبديه من تفهّم لعديد من القضايا الحساسة الواردة في تقرير لجنة بلحاج حميدة، ومنها عدم رفضه لإبطال تجريم المثلية بتونس.
تغيّر موازين القوى بالبلاد
لقد عوّدنا الحزب الإسلامي، رغم مرجعيته الدينية، وكغيره تماما من الأحزاب التي لا أخلاق لها، بالمناورة إلى حد الخداع إذا اقتضى الأمر؛ هذا ما هو يفعله في أمر هذه الرسالة ورفض نشرها. إنه يخادع ويداهن، لا فقط خوفا من فقد السند الذي يحرص عليه من الغرب والحليف الأمريكي الذي بدونه لا بقاء له في الحكم، لكن أيضا عند مناصريه، وأهل التزمت أهمهم. ذلك أن التيار الأقوى في الحزب اليوم، أي التيار المتزمت، يعتقد أن خسارته تكون أكبر لو تمادى في لعبة الديمقراطية، على النمط الغربي، كما تعاطاها إلى اليوم رئيسه. فهو يرى أن تغيّر موازين القوى بالبلاد يفرض تزمّتا أكبر.
ولئن صح هذا التحليل، فهو لا يأخذ بعين الإعتبار إلا جانبا من التغير في موازين القوى الذي لا يخص الساحة التونسية فحسب، بل يهم أيضا من يسهر على حظوظه بها من رأس المال الغربي؛ وهو لا يعترف إلا بالغنوشي، لا غير كممثل للنهـضة. وهو أيضا، لئن علم جيّدا مدى تلاعب الشيخ الأستاذ بالخيار الديمقراطي وحصره في المظاهر الخادعة، لا يمتنع عن الحرص على التشبث بها في نطاق لعبته الخاصة بالقناعة بدولة القانون والسعي باسمها في نطاق منظومة حقوق الإنسان، ولو كان ذا من باب المراءاة. فالسياسة اليوم ليست إلا لعبة مظاهر وخداع، فيها الصورة كل شيء، قبل كل شيء.
وما يزيد خطورة الوضع استفحالا اليوم بالنسبة للحزب الإسلامي يتمثّل في أن المتسبب الرئيسي في صعود الإسلاميين للحكم أصبحت بيده ورقة لن يترد في استعمالها في الإبان، هي التعويل من الآن فصاعدا على رئيس حكومة نجح في فرض نفسه كبديل، إذ له كل ما يؤهله التوفيق بين خدمة مصالح رأس المال الغربي والخصوصيات الثقافية للبلاد بأكثر فاعلية وأقل عنجهية مما كانت عليه الحال مع الحليف الإسلامي وما هي اليوم من التدنّي السافر، وغير اللائق ديمقراطيا.
هذا خاصة وأن الأسباب المباشرة للحلف الرأسمالي الإسلاموي انتفت بفشل الإستراتيجية الغربية في سوريا، فلم يبق منها إلا الجانب المركنتيلي البحت الذي من شأنه تحتيم طرح النعرات الأيديولوجية جانبا لأجل المراهنة على كل ما من شأنه دعم الأمن المادي والسلام المعنوي؛ ولقد فشل حزب النهضة دون أدنى شك في هذا الإمتحان لتمسك أغلب أعضائه بقراءة متزمتة للإسلام مخالفة لأبسط حريات الناس وحقوقهم ومناهضة لطبيعة التونسيين وروحهم المتحرّرة والمتنوّرة.
على أن لحزب النهضة فرصة تدارك تتمثل، علاوة على إعادة ملحمة الترويكا مع حزب رئيس الحكومة ومن يسانده، في البرهنة على أنه دائم الإستعداد للإعتراف بحقوق الشعب وحرياته كما ادّعاه وقاله في رسالته؛ هذا يكون بلا شك بنشر هذه الرسالة والكف عن محاولة تغييب محتواها. فمن البديهي أن من شأنه أن يظهر يوما رغم أنف المتزمتين، ألد أعداء الإسلام الحقيقيين، دين الحقوق والحريات أوّلا.
* ديبلوماسي سابق وكاتب.
شارك رأيك