توفيت أول أمس الأربعاء 10 جويلية 2019 طَاوِس أرملة لزهر الشرايطي المناضل الوطني وقائد جناحها المسلح في الخمسينات من القرن الفائت. وفي هذا النص يتعرض المؤرخ خالد عبيد إلى خصال هذه المرأة ونضالاتها وعلو قامتها في زمن تعملق فيه صغار العقل وعديمي الأخلاق.
بقلم خالد عبيد
ترجّلت طاوس بعد أن صمدت إلى آخر لحظة أمام الموت، ترجّلت تلك المرأة الضحوك التي لا تفارقها إبتسامتها بعد أن أنْهكها المرض وأضْنتْها الشيخوخة…
ترجّلت تلك الأمّ الحنون التي كابدت حتى تتمكّن من تربية بناتها أحسن تربية في زمن عزّ فيه من يشدّ أزرها آنذاك…
ترجّلت تلك السيّدة منْبع الكرم الأصيل التي لن يهدأ لها بال حتى تطعمك وتسقيك إلى حدّ التُخْمة – وأشهد بذلك أكثر من مرّة – ، ولو أنّ في قلبها مسحة من حزن دفين لم تمْحِه العقود…
ترجّلت تلك الأرملة التي فقدت زوجها ذات يوم 24 جانفي 1963 وإلى الأبد، لكن آلت على نفسها أن لا تستسلم لغَائِلَة الزمن وعَادِية البشر فلم تفقد الأمل وصبرت وصابرت إلى آخر رمق من حياتها.
كان مُنْتَهَى مُنَاها أن تزور قبر زوجها الذي لم يُحْفر إلى الآن
كان مُنْتَهَى مُنَاها أن تتقبّل التعازي في زوجها قائد المقاومة التونسية ضدّ الاستعمار الفرنسي في الخمسينات من القرن العشرين لزهر الشرايطي، وأن تزور قبره الذي لم يُحْفر إلى الآن وأن تقرأ عليه الفاتحة أيّام العيد، لكن غالبها الموت وصَرَعَها قبل أن تتحقق أمنيتها العزيزة عليها.
تَنازَعَتْني مشاعر عدّة عندما بلغني خبر وفاتها، لم يكن نعْيها عاديا لي، لأنّي عرفت هذه المرأة الشامخة التي تعلّمت منها الكثير في القليل من المناسبات التي زرتها فيها.
كان البدء، ذات يوم من سنة 2011، عندما تحدّثت في قناة تلفزية تونسية عن القائد المرحوم لزهر الشرايطي وعن رسالتي المفتوحة وقتها (في فيفري 2011) إلى وزير الدفاع الوطني والتي ترجّيته فيها أن يعيد رفات من تمّ إعدامهم من العسكريين والمدنيين إثر محاولة الانقلاب الفاشلة على الرئيس الحبيب بورقيبة في ديسمبر 1962، ومن ضمنهم لزهر الشرايطي.
ولمّا التقيت بها، لم يكن اللقاء عاديا، بل كان لقاء الإبن بأمّه التي احتفت به كثيرا وقالت لي بالحرف الواحد: “لمّا رأيتك تتحدّث عن لزهر قلت لزهر أسد ولا يرجع له حقه إلاّ أسد وأنت هو الأسد”.
طاوس كانت تتحلّى بأخلاق الفرسان فلم تحمل حقدا على “قاتل” زوجها
صحيحٌ كان هذا رأيها، لكن كنت كَمَنْ لا حِيلَة له، فوعدتها بأن أبذل كلّ جهدي حتى يقع استرجاع رفات المرحوم لزهر الشرايطي، وهو ما وعدني به وزير الدفاع آنذاك وأوْفى بوعده، وبعد جهد جبّار، تمّ إسترجاع رفات عدد 5 ممّن تمّ إعدامهم أمّا الخمسة الباقون فلم يتسنّ ذلك ولنْ يتسنى ومنهم المرحوم لزهر الشرايطي، لأسباب ليس هنا شرحها.
كانت طاوس تتحلّى بأخلاق الفرسان فلم تحمل حقدا على “قاتل” زوجها، بالرغم من أنّها كانت تتنازعها مشاعر متناقضة بين حبّها للحبيب بورقيبة الذي لم ينقطع تماما مثلما كان زوجها لزهر متعلّقا به إلى درجة إعتباره والده، وبين محاولة رفضها لهذا الحبّ تجاه رجل “أعدم” زوجها بالرغم من أنّه طلب الصفح علنا، كانت طاوس تجسيدا حقيقيا لعدالة إنتقالية أصيلة لم تر النور في تونس.
لم تشأ هذه السيّدة المقاومة الأصيلة أن تتنكّر لذكرى زوجها وتشوّه صورته بعد 2011 مثلما فعل البعض عندما خلقوا من نسْج خيالهم بطولات وهْمية لهم أو لأقربائهم، توهّما منهم أنّ ساعة الحساب المُجْزِي قد حانت، لذلك لم تشأ هي ولا بناتها أن يتخلّيْن عن مبادئهنّ الصادقة ومشاعرهنّ الوطنية بالرغم من كلّ الجُرْح الكبير اللاتي يَحْملنه، فلم ينخرطْنَ في جَوْقة شيْطنة الحبيب بورقيبة بالرغم من أنّه “أعدم” حَبيبَهم لزهر، لأنّهن يدركنَ أنّ العلاقة الحميمية الناصعة بين الحبيب بورقيبة ولزهر الشرايطي أكبر من أن يُنكرنْها أو يتنكّرنَ لها مثلما فعل البعض هرْوَلةً نحو التعْويض
كان جُرحهنّ ينْزف عذابًا وألمًا منذ عقود وما زال، لكن لم يشأْنَ أن يَخُنَّ ذكرى لزهر الشرايطي بأن يَنْسَقن وراء من كان يدفعهنّ كيْ يُأبْلِسْنَ الحبيب بورقيبة ويُشيْطِنَّهُ على أساس هو المجرم وقاتل لزهر… كنّ أعظم من هذا السقوط فحافظن على كرامتهنّ وكرامة ذكرى حبيبهنّ لزهر، سُقُوطٌ سقط فيه كلّ من يجهل الوقائع التاريخية وليس له إلمام بعلم التاريخ لكنّه يتنطّع في إدّعاء الإلمام بالموضوع فترى خطابه ينفث حقدا ونقمة وخاصّة جهْلاُ، مثل بعض الكتابات التي رأيتها إثر وفاة الفارسة طاوس والتي يعتقد أصحابها عن جهل وحقد أنّها هي الحقيقة! ولم يراعوا حرْمة الموت وطفِقوا يَسُبّون ويشتمون ويفْتَرون ويُمَارُون…!
لكن، أن نستكثر على آل الشرايطي أن نعيد الإعتبار إلى رمزهم الأعلى لزهر الشرايطي ولو رمزيا فهذا مرفوض، وأن لا نستمع إلى مطالبهم فهذا غير مقبول.
وقناعتي التي لا تتزحزح هي أنّنا لا يمكن أن ننظر إلى ماضينا إلاّ من زاوية ما أسميته “الطريق الثالث” أي لا نقدّس هذا أو نشيطن ذاك والعكس صحيح، قراءة موضوعية هادئة تتمّ على أيدي أهل الاختصاص بعيدا عن متطفّلي التاريخ ودجّاليه وكم هم كثر هذه الأيّام!!
في الأخير، أشهد أنّني قصّرت في حق هذه الفارسة الهُمامة وفي حق ذكرى زوجها القائد لزهر الشرايطي، وذلك بالرغم من الجهد الكبير الذي بذلته في الموضوع ونالني منه ما نال لكن عُذْري أنّني حاولت وتلمّست الطريق، وبدا لي كما لغيري واضحا، فطريق الألْف ميل يبدأ بخطوة، وهذه الخطوة خطوْناها وسنصل بحول الله إلى المبْتغى، فما ضاع حق وراءه طالب!
* مؤرّخ مختصّ في التاريخ السياسي المعاصر.
شارك رأيك