“إسأل نفسك مع شروق الشمس متى ستشرق أنت…غن لا تبالي بأحد، إفرح، الفرح لك، السماء لك، الكون لك، إنك سيد نفسك فلا تخضع، وأنت العاقل فلا تتبع القطيع، وأنت الحر لا تركع، كن عاشقا، كن ولهانا، كن سكرانا بالحرية…”.
بقلم سنيا البرينصي
كانت هذه الكلمات من الوصايا العشر بل من الوصايا الألف التي رشح بها العرض المسرحي الإستثنائي “رسائل الحرية” في افتتاح مهرجان الحمامات الدولي، الأربعاء 10 جويلية 2019، في سهرة راقية لعشاق الفن الرابع.
“رسائل الحرية” نص عميد المسرح التونسي والعربي عز الدين المدني وسينوغرافيا وإخراج حافظ خليفة، مع مشاركة شرفية وأداء صوتي للفنان لطفي بوشناق، هو عمل مسرحي ضخم جمع قامات من المسرح التونسي على غرار كمال العلاوي والبشير الغرياني والبشير الصالحي وكمال زهيو وفتحي الذهيبي وغيرهم.
وتتناول المسرحية حقبة زمنية معينة عاشتها البلاد التونسية بماضيها السياسي والديني والإجتماعي أسفرت عن قيام حراك شعبي من أجل الحرية والإنعتاق تمكن إثرها الشعب المنتفض على الفقر والجوع وعلى القيود النمطية والقوالب السياسية والتاريخية والدينية والإجتماعية الجاهزة والمتوارثة من بناء دولة إفتك حكمها لاحقا “كهنوت” السياسة والدين.
كسر تابهوات السياسة والدين وإسقاط نبوءة المهدي المنتظر
“رسائل الحرية” إستوحت سياقات من تاريخ تونس والعالم العربي ككل لتكسر جميع “التابوهات” سياسيا ودينيا وثقافيا واجتماعيا وتعري الكوامن والمسكوت عنه وتفتح نوافذ ناقدة ومنتقدة لحاضر بلدان المنطقة بعد ما يسمى ب “ثورات الربيع العربي” وما “أشبه الأمس باليوم” بما أن “التاريخ يكرر نفسه” في بعض الحالات إن لم نقل أكثرها.
“رسائل الحرية” استلهمت من تاريخنا العربي جانبه الموبوء وفضحت بؤسه زمانيا ومكانيا وكشفت جميع عوراته، بدءا من ظلم الحكام الطغاة ودجلهم وشعوذتهم الأزلية من أجل الإستحواذ على السلطة والبقاء فيها “خالدين مخلدين”، مرورا بحجم المجازر التي ارتكبت من أجل عيون السلطة وبإسم الدين في حق الشعوب المغلوبة على أمرها، وهي مجازر ظلت في الحقيقة موجودة إلى اليوم، وإن خفتت حدتها نوعا ما، وذلك رغم إختلاف الزمان والمكان وتباين السياقات التاريخية والإجتماعية والسياسية لكل بلد عربي.
وأنت تشاهد المسرحية تبحر في ثنايا التاريخ بين دجل “المهدي المنتظر” و”نبوءة السلطة” في تقاطع رهيب مع نبوءة الجنة والاخرة وحور العين والجزاء والعقاب والفرقتين الناجية والمغضوب عليها سياسيا ودينيا واجتماعيا في عرف سماسرة السياسة والدين ماضيا وحاضرا.
“رسائل الحرية” التي افتتح بها مهرجان الحمامات الدولي سهراته مثلت بجدارة الحدث الإبداعي الأهم لهذا الموسم، حيث كشفت زيف أساطير الأولين والحالين من مشعوذي السياسة والدين في تونس والعالم العربي وعرت بؤسنا كشعوب في ظل “الحاكم بأمره” و”الزعيم الأوحد”، ونحن نرزح تحت ثقل تاريخ بائس وحاضر مؤلم ومستقبل غامض ومجهول، في زمن نحن ندور فيه جميعا في حلقة مفرغة تضيق بنا يوما بعد يوما وفق مسار أوحد ووحيد هو مسار “نبوءة المهدي المنتظر” المزعوم التي تتمظهر لنا يوميا في واقعنا الراهن الذي يعاني من عاهات وعلل تكاد تكون مزمنة وفي كل المجالات.
المهدي المنتظر هو أنت… أنت سيد نفسك فلا تخضع
“رسائل الحرية” أراد لها عز الدين المدني أن تنطلق من حدث إنتشار واكتساح دعوة أبي عبد الله الشيعي بإفريقية (تونس) وقيامه بثورة ضد الأغالبة، أهل الدار والسكان الأصليين، بدعوى محاربة الظلم وإسقاط حكم الدكتاتورية والإضطهاد وعتق الشعب من الفقر والجوع والحيف الاجتماعي، لكن يتبين لاحقا أن هذا القادم الغريب عن أهل الدار ليس سوى دجالا متخفيا تحت عباءة “الدين”، وليس سوى سفاحا وجلادا متسربلا بسربال العدل والحرية الزائفين.
وهذا الحاكم الجديد الذي أتى لإسقاط نظام وإستبدال حكم يعيث هو الاخر فسادا وتقتيلا في إفريقية، وتغرق البلاد في مسار مظلم من الظلم والتفقير والجوع والقتل، وأصبح أهلها يعيشون في أوضاع أكثر سوء وشرورا من الماضي، لكن فجأة ينبثق صوت من دهاليز هذا النفق السحيق مكسرا جميع القيود وحواجز الخوف والمنع صارخا وهادرا : “إعلموا أن من يحكمكم دجال ومشعوذ… إعلموا أن المهدي المنتظر هو مجرد حلم… مجرد أمل ولا وجود له… لا وجود للمهدي المنتظر… أنتم هم المهدي المنتظر”.
ذلك الصوت الهادر هو صوت “رسائل الحرية” الهادر عبر الزمان والمكان في لوحة فنية ثرية وراقية جدا مضمونيا ومشهديا بتوقيع الكاتب الكبير عز الدين المدني الذي نتمنى له طول العمر و مزيد العطاء للأدب والمسرح والثقافة في تونس وهو واحد من أعمدتها و رموزها.
شارك رأيك