الكثير من السياسيين آمنوا بالنهاية السياسية المبكرة لرئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي وبأنه أصبح مجرد ساكن عابر لقصر قرطاج ينتظر أشهر قليلة ليتم ركنه في صفحات التاريخ المنسية. ولكن ككل مرة يفاجئهم السياسي المحنك من حيث لا يدرون فنهايته السياسية تمثل اليوم إنطلاقة جديدة وعلاقة ترابط متجددة مع كافة فئات الشعب التونسي.
بقلم فيروز الشاذلي
لم يشأ الباجي قائد السبسي أن يطل على الساحة السياسية بعد غياب نسبي بسبب أزمته الصحيّة مؤخرا دون أن يطبع هذا الظهور الإعلامي بحدث مهم فكان له ما أراد من خلال توقيع الأمر الرئاسي المتعلق بدعوة الناخبين للإنتخابات التشريعية و الرئاسية لسنة 2019 وبدهائه السياسي أراد أن يقطف عديد الأهداف في نفس الوقت.
الباجي يحسم الجدل حول إجراء الإنتخابات الخريف القادم
من الأهداف التي حققها السياسي العجوز والمحنك بداية إستثمار حالة التعاطف العامة بين فئات الشعب التونسي مع الرئاسة بسبب الوعكة الصحية والحديث السابق لأوانه عن حالة الشغور، ثانيا إستغلال الظهور الإعلامي بعد هذه الأزمة الصحية لتوطيد هذه العلاقة التواصلية مع عامة الشعب الذي ينتظر ظهوره لتفنيد الشكوك التي تحوم حول صحة رئيس الجمهورية وهنا يعتبر نجاح ثاني لرئيس الجمهورية في حشد فئات إضافية من الداعمين حول موقع رئيس الجمهورية لما ترمزه لوحدة البلاد ومناعتها السياسية والأمنية، ثالثا لم يرد رئيس الجمهورية أن يمر هذا الظهور الإعلامي دون أن يحسم بصفة نهائية في الجدل الدائر في بعض الأوساط حول إجراء الإنتخابات من عدمها وذلك بإمضاء الأمر المتعلق بدعوة الناخبين ليعطي مثال على توجهاته نحو إستمرارية الدولة عبر التداول السلمي على السلطة عن طريق الإنتخابات بإعتبارها الضامن الحقيقي للمناعة السياسية، الإقتصادية والأمنية الحقيقية للبلاد التونسية وهو يثبت من خلال ذلك أنه رجل دولة بإمتياز يرقى بمواقفه عن التجاذبات السياسية إلى البحث عن المصلحة العليا للوطن وهذا كان واضحا اليوم في إشادة العديد من الخصوم و المعارضين السياسيين للباجي بخطوته التي قام بها.
ولادة سياسية جديدة للباجي بعد أزمة الخميس الأسود
من حيث لا يدري أصبح الباجي قائد السبسي أكبر مستفيد من تسارع الأحداث التي وقعت يوم الخميس 27 جوان 2019 ولربما يرجع هذا المنحى الإيجابي الذي إستفاد منه الباجي هو العمل من قبل المشرفين على تسيير قصر الرئاسة على إتباع منهج الشفافية في التعامل مع تطور حالة الرئيس الصحية فرغم معارضة البعض الذين إعتبروا هذا خطأ إتصاليا فادحا من قبل مؤسسة الرئاسة وأنه كان الأجدر التمهل في إعلان ذلك نظرا لوجود حالة خوف وتخبط يومها نتيجة الإعتداء الإرهابي الذي حصل في العاصمة، لكن الأحداث بيّنت عكس ذلك فإخفاء الأمر حول حالة رئيس الجمهورية لا يمكن الإستمرار في إنكاره طويلا في ظل تطور وسائل الإتصال ومنسوب التعبير والحرية العالي وكان أي تسريب على الدرجة الحرجة للرئيس سيكون له إنعكاس سلبي خطير على وضع البلاد وساعتها المواطن العادي لن يصدق أي بلاغ يصدر لاحقا بإعتباره إقتنع بمحاولة قصر الرئاسة إخفاء حالة الرئيس منذ البداية فتكون هناك أزمة ثقة في المعلومة الواردة عليه.
من جهة أخرى إعتماد الشفافية حول صحة الرئيس جعل أغلبية المواطنين لا يركزون على الخوف من العملية الإرهابية وارتداداتها بل كان جل تركيزهم على متابعة صحة الرئيس ورمزية موقعه كونه أول رئيس منتخب مباشرة من الشعب بصفة ديمقراطية وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة ورمز وحدة الوطن وشعبه حيث إلتف كامل الشعب حول موقع رئاسة الجمهورية مما جسد حالة نادرة من الوحدة الوطنية الصادقة شملت ليس فقط الموالين لخط الباحي بل كذلك حتى الخصوم السياسيين كالتيار الديمقراطي ونواب الحراك، وبصورة عامة مثلت هذه الحادثة ولادة سياسية ثانية لشخص الباجي.
إضمحلال وهم النهاية السياسية للباجي
الكثير من المتابعين وخاصة السياسيين الذين آمنوا بالنهاية السياسية المبكرة لرئيس الجمهورية وبأنه أصبح مجرد ساكن عابر لقصر قرطاج ينتظر أشهر قليلة ليتم ركنه في صفحات التاريخ المنسية يجدون أنفسهم الآن أمام واقع تشتت واضمحلال أوهامهم ولربّما نجد لهم عذرا في هذا التفكير فالرجل له من التكوين والدهاء السياسي قلّ نظيره لكن تقدمه في السن جعلهم يركنون إلى فكرة إنتهاء مسيرته السياسية بحكم تقدمه في السن كما ذكرنا وكذلك تراجع شعبية الباجي على خلفية موقفه من إبنه في الصراع داخل نداء تونس بحكم رفض التونسي التوريث السياسي في المطلق بالرغم أننا لسنا في نفس التشخيص الآلي للتوريث السياسي في التجربة الديمقراطية التونسية. ولكن ككل مرة يفاجئهم الباجي من حيث لا يدرون فبدل أن تكون نهايته السياسية مثلت إنطلاقة جديدة وعلاقة ترابط متجددة مع كافة فئات الشعب التونسي.
مواقف لن ينساها التاريخ و لن ينساها التونسيون
موقف الحسم في الإنتخابات ليس الموقف الوحيد الذي يذكره التونسيون بالإيجاب في مواقف رئيس الجمهورية منذ إعتلائه سدة الرئاسة سنة 2014 فكل التونسيين يتذكرون كذلك حرصه على عدم الدخول في صراع المحاور التي أنهكت دول العالم العربي والإسلامي فمنذ البداية كان واضحا في الخروج من منطق الإستقطاب والتموقع وراء محور ضد محور آخر في الأزمة السورية التي أصبحت حربا أهلية طاحنة دمرت تقريبا كامل البنية التحتية للشقيقة سوريا زيادة على تفتيت النسيج المجتمعي السوري.
كذلك يتذكر الجميع موقف رئيس الجمهورية في خصوص الأزمة الخليجية وتشديده على ضرورة الحوار والتعامل مع جميع الأطراف لأنه لا رابح في سياسة المحاور بل الرابح الأكبر هم الأعداء الإقليميون والدوليون للعالم العربي.
أما أكثر موقف بارز أعطى دلالة على الأفق السياسي الواسع لرئيس الجمهورية هو الموقف من الأزمة الليبية الداعي للحل السياسي ونبذ الحل العسكري لأنه غير مجدي بالرغم من وجود معارضة شرسة في الداخل التونسي حيث يوجد تيارات داعمة بقوة للحل العسكري الذي يقوده اللواء المتقاعد خليفة حفتر ولكن مع الأيام بات واضحا بعد الخسائر المتتالية لقوات حفتر رجاحة الموقف التونسي بقيادة عميد السياسة الخارجية التونسية الباجي قايد السبسي.
الباجي سيشارك في الإنتخابات القادمة بصفة فاعلة وحاسمة
هذا الرصيد السياسي الذي لا يستهان به والذي يشهد به القريب والبعيد للرئيس الباجي قائد السبسي وخاصة بعد إرتفاع شعبيته نظرا للمواقف الإيجابية التي إتخذها مؤخرا سوف تجعل مشاركته في الإنتخابات القادمة حتميّة وحاسمة في نفس الوقت وذلك لعدة إعتبارات.
من أهم هذه الإعتبارات هذه الثقة الموجودة في شخص الباجي من قبل طيف هائل من الشعب والتي بالتأكيد سوف تتأثر بإختيارات وتوجهات الباجي خاصة بمواقف الباجي من المترشحين للإنتخابات الرئاسية فشهادة إيجابية أو سلبية وقت ذاك من قبل رئيس الجمهورية الحالي يحظى بثقة كبيرة من الشعب التونسي سوف تكون إنعكاساتها جلية في توجيه أصوات الناخبين في صناديق الإقتراع بل يتضح ذلك في العديد من خطب الرئيس التي ركز فيها على أن حياته السياسية لن تنتهي بإنتهاء ولايته الرئاسية وليست مربوطة بالترشح للإنتخابات الرئاسية القادمة فالباجي إن كان تقدمه في السن سوف يجعل منه الخصم الأضعف في الإنتخابات القادمة في صورة ترشحه لن تمنعه من أن يكون الورقة الرابحة التي تدعم وتفصل بين المترشحين في صورة عدم ترشحه وهي الفرضية الأرجح لما نعرفه عنه من فطنة سياسية وإدراكه أن المرحلة القادمة ليست مرحلته وأن الخروج من الباب الكبير يقتضي عدم الترشح المباشر بل المشاركة غير المباشرة بدعم الطرف الذي يراه مناسبا.
شارك رأيك