يقول العلامة عبد الرحمان بن خلدون: “إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار وفي باطنه نظر وتحقيق”.
وقد اختار المخرج اللبناني الراحل منصور الرحباني العودة إلى القرن الحادي عشر، وتحديدا فترة ملوك الطوائف بالأندلس، تلك الحقبة التي قامت فيها دويلات صغيرة على أنقاض الدولة الأموية، ليجسد ما حدث، في عمل مسرحي غنائي بعنوان “ملوك الطوائف”، وينبه الحكام العرب من مصير شبيه بما حدث في الأندلس.
وبعد النسخة الأولى التي تم تقديمها سنة 2003، أعاد المخرج والمؤلف الموسيقي مروان الرحباني (نجل منصور الرحباني) إحياء هذا العمل مجددا مع الحفاظ على الموسيقى والنص، مكتفيا بإدخال بعض العناصر السينوغرافية على العمل، واختار الفنانة هبة طوجي لتقدم الدور الرئيسي للعمل مع غسان صليبا عوضا عن الفنانة كارول سماحة.
وقد تم عرض هذه النسخة الجديدة من “ملوك الطوائف” في سهرة الاثنين على ركح المسرح الروماني بقرطاج ضمن الدورة 55 لمهرجان قرطاج الدولي، بحضور جمهور متوسط العدد.
هذا العمل هو من تأليف وتلحين ومسرحة المخرج منصور الرحباني وإخراج مروان الرحباني وشارك في التلحين والتوزيع كلّ من غدي الرَّحباني وأسامة الرَّحباني ومروان الرَّحباني وإلياس الرَّحباني.
تحكي المسرحية الغنائية “ملوك الطوائف” انقسام الأندلس إلى دويلات صغيرة منها قرطبة وغرناطة وطليطلة وأستورياس واشبيلية التي حكمها الملك المعتمد بن عباد الذي تقمص شخصيته غسان صليبا.
وقد جعل هذا الانقسام من الدويلات ضعيفة وعرضة لخطر الملك “ألفونسو السادس” مما جعل ملك كل طائفة من هذه الطوائف تستنجد به لحماية ملكها، مقابل دفع الجزية وإبرام اتفاقيات سرية مضمونها خيانة الطوائف الأخرى.
تاريخ نهاية الأندلس، جعله منصور الرحباني في هذه المسرحية الغنائية ينطبق على الواقع العربي الحالي: فطوائف الأندلس جعلها 22 طائفة في إشارة محكمة إلى 22 دولة عربية، وأما المؤتمر الذي دعا إلى عقده المعتمد بن عباد ملك اشبيلية، فيحاكي اجتماعات القمم العربية التي تنعقد لتدين وتستنكر وتعبر عن عميق انشغالها لما آلت إليه الأوضاع في المنطقة، وأما الملك “ألفونسو السادس” فهو مرآة للرئيس الأمريكي ودولته العظمى، وهو الذي تتسابق نحوه ملوك الطوائف لكسب رضاه عنهم وضمان حماية عروشهم.
وأثار العمل عديد القضايا الأخرى كالدسائس التي يحيكها ملوك الطوائف لبعضهم البعض، وانشغالهم باللهو وولعهم بالخمرة والنساء، في الوقت الذي يعيش فيه الشعب ظروفا صعبة من مظاهرها الجوع والفقر والبؤس والترفيع في الضرائب وتكميم الأفواه وتفشي الفساد السياسي في إدارة شؤون الدولة.
ولعل هذه الجرأة في استعراض مثل هذه القضايا حالت دون عرض المسرحية في الدول العربية باستثناء تونس ولبنان، وذلك رغم قيمتها الفنية الراقية.
وللتعبير عن جملة هذه القضايا، جمعت “ملوك الطوائف” بين فنون الشعر والموسيقى والرقص والمسرح والصورة، وأضفت الأزياء العربية والأندلسية والبربرية والاسبانية رونقا على أداء الممثلين وسحرا على مشاهد العرض، فكان العمل أشبه إلى الواقع وشد إليه انتباه الجمهور طيلة العرض الذي قدم في فصلين اثنين داما ساعتين و50 دقيقة.
ومن الخصائص الفنية التي يمكن الوقوف عندها في المسرحية هي إيقاع العرض الذي أخذ منحى تصاعديا وبدا منسجما مع تطور الأحداث نحو ذروتها وصولا إلى الكارثة وهي سقوط الأندلس بالكامل. والإيقاع التصاعدي في هذه المسرحية الغنائية لم يقتصر على أداء الممثلين على الركح فحسب، بل في إيقاع الأغاني ومضامينها أيضا، إذ كلما قاربت الأحداث من ذروتها تصاعد إيقاع العرض وأصبحت الأغاني أكثر ملحمية.
ولم يخل العرض من المواقف الساخرة، رغم الأحداث التراجيدية التي خيمت على العمل، فالمخرج تعمد وضع ملوك الطوائف في مواقف مضحكة، فحط من عظمتهم الزائفة وغيب كل موقف عقلاني لديهم، فما يفكرون فيه هو إشباع بطونهم وغرائزهم الجنسية.
وقد لعب أسلوب السخرية في “ملوك الطوائف” وظيفة الإضحاك وإراحة الجمهور من عناء تتابع الأحداث بنسق تصاعدي، لكنها سخرية سوداء ظاهرها هزل ومضمونها مأساة.
لقد ارتحل منصور الرحباني إلى التاريخ لإبراز الماضي الأسود من الناحية السياسية والتاريخية للحكام العرب، وهو المشهد نفسه يتكرر في المنطقة العربية، دسائس وخيانات وكل ما يفكر فيه الحكام هو حماية عروشهم، بل إن “ملوك الطوائف” لا تنطبق على الدول العربية فقط، وإنما تتعدى ذلك إلى الانقسام الطائفي والإيديولوجي داخل الوطن الواحد، ففي تونس مثلا تتصارع الأحزاب على السلطة مسبقة مصالحها الضيقة على مصالح الوطن، وفي سوريا واليمن وليبيا معارك مسلحة طاحنة بين أبناء البلد الواحد وفي العراق صراع طائفي بين السنة والشيعة مزق العراق بعد الاحتلال الأمريكي.
لقد جعل منصور الرحباني من الحب الذي جمع الملك المعتمد بن عباد والشابة “اعتماد الرّميكية” نقطة مضيئة في العرض، فالحب يعني الوفاء والإخلاص عند الشدائد، فقد ظلت الرّميكيّة وفية للمعتمد رغم انكساره وخلعه عن العرش في النهاية.
وقد أراد المخرج إبراز أن ما ينقص العرب هو الحب والوفاء والإخلاص وهو الذي يوحد الشعوب ويحرس الأوطان ويقيها خطر الانهيار.
وضمّن المخرج رسالة الى الحكام العرب على لسان المعتمد بن عباد مفادها أن يكونوا عرب المستقبل لا عرب التاريخ وأن يكونوا عرب العقل والمنطق لا عرب العاطفة.
شارك رأيك