الإستنجاد بأصحاب التجربة والكفاءة والإختصاص في تسيير شؤون البلاد مسالة مهمة للغاية، لأن لا حد مهما علا شأنه قادر على الإلمام بكل المشاكل وحلها بمفرده، أما الإنفراد بالرأي وتهميش المستشارين أو الإساءة في اختيارهم فهو يؤدي غالبا إلى مآلات كارثية.
بقلم مصطفى عطية
كان الرئيس الفرنسي الراحل، الجنرال ديغول، يقول لوزراء حكوماته المتعاقبة طيلة ولايته الرئاسية : “إن قيمتكم تتجلى في قيمة المستشارين المحيطين بكم ” !
وتفيد سجلات التاريخ أن السلطان العثماني محمد الفاتح، الذي إقتحم القسطنطينية، إسطنبول اليوم، وضمها إلى بلاد الإسلام، كان حريصا شديد الحرص على عرض كل القرارات التي يعتزم إتخاذها على مستشاريه، ويناقشها معهم فردا فردا، ثم جماعيا، حتى قيل انه “كان ينفذ ولا يقرر”.
السلوك الإستشاري بين الأمس واليوم
بهذا الأسلوب المرتكز على مبدإ الإستشارة في الحكم هزم الأمبراطورية البيزنطية وآستولى على عاصمتها القسطنطينية وأسر إمبراطورها عماناويل الثاني صاحب القولة الحاقدة ، التي مازال الصليبيون يذكرون بها : “الإسلام دين عنف”.
ولكن عندما إغتر السلطان العثماني الآخر سليمان القانوني بنجاحاته الباهرة، تخلص من مستشاريه الأكفاء واحدا تلو الآخر، ثم انفرد بآتخاذ القرارات الحاسمة في السلم والحرب، فتحطمت جيوشه الجرارة على أسوار مدينة فيينا النمساوية، وكان عجزه عن اقتحامها بداية نهايته.
وفي تاريخنا الوطني المعاصر أكد العديد من وزراء الزعيم الحبيب بورقيبة أن هذا الأخير كان رجل حوار ويحسن جيدا الإستماع إلى وزرائه ومستشاريه في الفترة التي كان متمكنا خلالها بزمام الأمور وتحديدا منذ توليه الحكم وحتى سنة 1970، تاريخ بداية تدهور صحته.
هذا السلوك الإستشاري كان سر نجاحة في اتخاذ القرارات الصائبة، خلال مرحلة تأسيس الدولة المدنية الحديثة، وقد كان زين العابدين بن علي، هو الآخر، حريصا على الإستئناس بآراء ذوي التجربة والمعرفة قبل أن يهزه تيار الإنفرادية ككل القادة العرب، وقد حدثني عالم الإجتماع المصري المعروف سعد الدين إبراهيم، في لقاء جمعنا بعاصمة النور باريس، عن تجربته مع الرئيس المصري المعزول حسن مبارك وكيف كان، في بداية عهده بالحكم، يلتقي به وبعض كبار المفكرين والأخصائيين لتدارس الأوضاع في البلاد، فيستمع إليهم بٱنتباه ولا ينبس ببنت شفة، ولكن بعد عدة أشهر أصبح هو الذي يتكلم والبقية يستمعون إليه حتى تم تدريجيا إلغاء ذاك اللقاء !
تهميش منصب المستشار بعد جانفي 2011
أردت إستعراض هذه الأمثلة للتأكيد على أهمية الإستنجاد بأصحاب التجربة والكفاءة والإختصاص في تسيير شؤون البلاد، لأن لا حد مهما علا شأنه قادر على الإلمام بكل المشاكل وحلها بمفرده، والتنبيه إلى كارثية مآلات كل الذين إنفردوا بالرأي وهمشوا مستشاريهم أو أساؤوا إختيارهم !
نحن في تونس، ومنذ حراك الرابع عشر من جانفي 2011، وحلول جحافل المسؤولين الجدد دون تجربة وبلا خبرة بعد الإقصاء الجماعي للكفاءات الوطنية وتهميشها، لم نعط لمنصب المستشار القيمة المعنوية والإجرائية التي يستحقها، ومن المؤسف التأكيد على وجود الكثير من المستشارين الذين لا يستشارون أو أنه لا يؤخذ بٱستشارتهم! فالمسؤول مهما علا شأنه وارتقت كفاءته لا يستطيع تسيير دواليب ما عهد إليه بمفرده ودون استئناس بأصحاب التجربة ممن أثبتوا قدرتهم على الإفادة.
إن الغاية لا تكمن في تضخيم طاقم المستشارين وإنما في الإستماع إليهم والتأمل بجدية في مقارباتهم والإستئناس بآرائهم وتفعيل أدوارهم الإستشارية.
* صحفي وكاتب.
شارك رأيك