نحتفل كل سنة بجمهورية أفرغت من مقوماتها الأساسية، أي حقوق الشعب وحرياته، لب لباب سيادته؛ فهل نداوم النفاق يوم 25 جويلية القادم أم يكون عيد الجمهورية فرصة عودة الوعي المتحتّمة؟
بقلم فرحات عثمان *
الجمهورية بتونس جاوزت بعد سن التقاعد، ما يفترض العناية بها أكثر، وهي من قناعات رئيس الحكومة نفسه؛ فقد أكد أخيرا في ندوة وطنية حول المتقاعدين أنهم بلا منازع كفاءات وخبرات في خدمة الوطن، وأن أهل التقاعد ثروة وطنية، مناضلون أفذاذ. فأين التثمين الفعلي لهذه القناعة بخصوص جمهورية بلادنا وهي في سن الشيخوخة المبكّرة؟ هل كلام يوسف الشاهد مما لا يتبعه فعل، أي الهراء المعتاد في السياسة؟ فالجمهورية التونسية، بلا أدنى شك، مسمّى فضفاضا لا معنى حقيقي له على أرض الواقع؛ بل إنها الديكتاتورية الحلال!
الجمهورية بتونس، الخداع السياسي:
يقول رئيس الحكومة أن أهل التقاعد تحمّلوا وزر بناء الدولة الحديثة، فنسأله: هل الحداثة مجرد انعقاد انتخابات حسب قانون لا يمثل ضرورة تطلعات الشعب، خاصة لفرضه الإقتراع على القوائم؟ وهل يكفي الإنتخاب كاستحقاق شعبي بينما لا حقوق ولا حريات لأبناء وبنات الشعب طالما أنهم لا يزالون يرزحون تحت نير قوانين الديكتاتورية؟ ثم هل الانتخابات حقا نزيهة وهي تُعقد في ظل القوانين الجائرة للعهد البائد، إذ تمثله قوانينه النافذة المفعول رغم أنها أصبحت لاغية بمقتضى الدستور؟
وبعد، هل تونس حقا دولة قانون بما أن اللاقانون هو الذي يحكمها، هذه القوانين الباطلة بمقتضى دستور بقي حبرا على ورق؟ أليس ما يلخّص أفضل تلخيص الحالة التعيسة التي نعيشها الرفض السياسي البات لإرساء المحكمة الدستورية؟
رغم ذلك، حرصنا منذ الثورة المزعومة ونحرص اليوم على الإحتفال بجمهورية لا حقوق فيها للشعب ولا حريات؛ ونفتخر أيضا بعقد إنتخابات في محيط غير قانوني، متبجّحين بصفتها الديمقراطية رغم أنها لا تكرّس إلا هيمنة الأحزاب النافذة مع التأكيد الثابت لاغتصاب الشرعية الدستورية. وها هو زعيم النقابيين يشكك مسبقا في مصداقية الإنتخابات القادمة! وكيف تكون نزيهة والهيئة المشرفة عليها ليست مستقلة إلا نظريا بما أنها تنشط في نطاق وحدود القوانين الباطلة، وأيضا تحت ضغوط سياسية وتجارية لا شك فيها. ولعل ما يختزل هذه الضغوطات ما فرض على الهيئة من وجوب استعمالٍ لوثة الحبر الإنتخابي الذي لا فائدة فيه مع استعمال القوائم الإنتخابية المحيّنة، عدا المصالح التجارية والسياسية المتحدة لخدمة أغراضها لا سيادة الشعب.
لم تكن الجمهورية بتونس منذ قيامها إلا خداعا سياسيا؛ ولئن قبل الشعب كرها هذه الكذبة لطبيعة النظام الديكتاتوري الحرام الذي تحكّم طويلا في رقابه، فقد تغيّرت الأمور مبدئيا ولم يعد لا مقبولا ولا ممكنا المداومة على هذا الخداع. فالحاكم نفسه يدّعى استلهام حكمه من نفوذ الشعب وقد أتى باسمه إلى الحكم وكرّس سيادته النظرية في الدستور.
لا مجال إذن لأن تدوم حال هذا الشعب المتحكّمة في رقابه إلى اليوم قوانين جائرة، باطلة قانونا، ومنها مناشير لا صفة لها لا يزال رئيس الحكومة يتردّد في إلغائها باسم علويّة القانون والعدل والنزاهة.
كذلك الأمر بالنسبة للدستور وقد ظل حبرا على ورق في أهم ما فيه، فلا تطبيق للحقوق والحريات التي أقرها، ولا نية سياسية البتة في ذلك برفض إقامة المحكمة الدستورية وإرجاء الإصلاح التشريعي المتحتّم إلى ما لا نهاية!
النظام الجمهوري التونسي، الديكتاتورية الحلال:
كيف الكلام في هذه الظروف عن جمهورية تونسية والاحتفاء بهذه الصيغة النظرية في كون السلطة النهائية بيد الشعب؟ إن جوهر النظام الجمهوري لا ينحصر في انتخاب الممثلين عن الشعب والإكتفاء بذلك للإدعاء، باسم إرادة الشعب وسيادته كشرعية وحيدة، أن لكل مواطن الحق في المساهمة بصفة مباشرة أو غير مباشرة في شؤون الدولة.
هذا لا يكون إلا بتمتيع كل أفراد الشعب، أولا وقبل كل شيء، بحقوقهم كاملة وحرياتهم لا تقليص منها في حياتهم اليومية، وبالأخص في أمورهم الخصوصية؛ ونحن ما زلنا لا نقر بهذا في بلادنا، بل ويفتخر بعضهم برفضه كخصوصية وهمية نكراء!
لذا، لئن لم تكن الجمهورية منذ قيامها إلا ديكتاتورية مقنّعة، فهي اليوم هذا النظام الديكتاتوري المدّعى صفة الحلال؛ ذلك أن الديكتاتورية، كإثم سياسي أكبر، لم تسقط رسميا بما أنها بقيت في منظومتها القانونية، هذا الحلال المعمول به بدون مركّبات من طرف الحكام أيا كان مذهبهم السياسي، أو وخز ضمير عند من يدّعي التمسّك بالأخلاق والدين. الجمهورية عندنا لهي إذن الديكتاتورية الحلال!
أقول هذا اعتمادا لا فقط على واقعنا السياسي، بل وأيضا على ما نعرفه في لغتنا من تعبير الجمهوري الذي يعني عصير العنب المطبوخ الحلال، وهو المسمّى عند الفقهاء «البُختج»، أي العرق أو الكحول، ما يقابله بالفرنسية eau-de-vie. ونبيذ العنب هذا، الشراب المسكر الحلال، سمّي بالجمهوري لأن جمهور الناس يستعملونه، أَي أَكثرهم. وتلك حال تعبير الجمهورية الذي هو في فم غالبية سياسيينا رغم فراغه من كل معانيه.
لهذا، أصبحت جمهوريتنا النبيذ الجموري، أي الخمرة المسكرة vin capiteux ؛ فهي تحيل إلى نظام مسكر عن الأخلاق السياسية النبيلة، مذهل عن المبادىء الأساسية لسيادة الشعب وهي ضمان حقوقه وحرياته بقوانين غير جائرة ومحكمة دستورية قائمة. فالجمهوري بتونس كنظام سياسي له نفس مفعول النبيذ الجمهوري، حاملا من يتعاطاه على العربدة والتلاعب بالمفاهيم والغش والخداع والنفاق. وإن الفرصة لسانحة، مع الإحتفاء الأسبوع القادم بعيد الجمهورية، للتدليل على عكس ما أقول، وذلك بأن يسارع أهل الحل والعقد بإكساب الجمورية ما ينقصها من حقوق وحريات.
فهل يأتي رئيس الجمهورية ببادرة تعيد الإعتبار لما يرأسه، هذه الجمهورية وقد غدت صدفة خاوية؟ بل هل يكون هذا، على الأقل، من رئيس الحكومة فيجرؤ على إلغاء جميع المناشير الباطلة تحقيقا أخيرا وفي هذا اليوم الرمزي لثبوت سيادة الشعب عنده حقا؟ فإن ذا لا يستدعي أي إجراءات خاصة ولا يقتضي إلا أمرا هو من صلاحياته بلا منازع؛ نظيره في ذلك الأمر الأخير المتعلّق بالنقاب في الإدارة.
* ديبلوماسي سابق وكاتب.
شارك رأيك