رغم عدم توازن القوى بين قرطاج وروما (بلغ تعداد جيش حنّبعل حينها 45 ألفا في مقابل جيش روما البالغ 770 ألف مقاتل) فقد عوّل القائد القرطاجي على النوعية والإستثمار في الذكاء والمكر، أكثر منه على العناصر التقليدية في الحروب عصرئذ.
بقلم عزالدين عناية *
لم تقرّ روما لخصمٍ لها بالإجلال والرهبة مثلما أقرّت بذلك لحنّبعل القرطاجي (248-182 ق.م)، ليس لفطنة الرجل السياسية وعبقريته العسكرية فحسب، وإنما لخطورة طرحه الجيوسياسي حينها، كبديل حضاري متكامل يعيد رسم خريطة العلاقات بين الحضارات المطلّة على المتوسّط، بعيدا عن الصراعات التي استحكمت بتلك البحيرة حتى حوّلتها إلى مقبرة مترامية الأطراف. وهنا يتنزّل ما عُرف بقَسَم حنّبعل: “أُقسم أن أناصِبَ روما العداء إلى الأبد”، في إيحاء واضح إلى رفض نمطها الحضاري المتعسّف والتطلّع إلى نمط ديمقراطي، كما كانت تبشّر به قرطاج ودستورها.
من هذا الجانب لا يزال القائد العسكري القرطاجي حنّبعل بن أميلكار محلَّ دراسة واهتمام من قِبل المعنيين بالمجالين السياسي والعسكري.
فالرجل من القادة الموهوبين الذين تجلّى عبرهم الذكاء البشري في أبهى لُمَعه، في استنباط الحلول وتذليل الصعاب، حتى عُرف بمقولته الشهيرة: “سوف نجد حلا أو سنصنع حلا”. فلم تذعن روما إلى خصم من خصومها مثلما أذعنت لـ”حنّ-بعل” أو “حنان بعل”، حنان الإله ورأفته، كما يدلّ اسمه المركّب في البونية القديمة شقيقة العربية.
فرادة مسار جامع بين بَأْس القوة وعمق الثقافة
وللإلمام بفرادة الرجل يقتضي البحثُ التاريخي الإحاطة بالحيثيات والأوضاع التي صنعت شخصه. فليس حنّبعل شخصية قيادية أسطورية، على غرار الإسكندر المقدوني أو قورش العظيم، بل هو شخصية سياسية واقعية، تميّزت بموهبة التكتيك المبهر، مع ذلك لم يسلم من تشويه الخصوم ونعته أحيانا بالفظّ المتعطّش لسفك الدماء والمدبّر البارع للإيقاع بالخصم.
لكنّ حنّبعل الذي روت ملحمته الرواية الرومانية، غير حنّبعل التاريخي الإنساني، الذي حاول إعادة رسم ملامحه المؤرّخ والمتخصّص الإيطالي في سيرته جوفانّي بريزّي في كتابه: “أنا حَنّبعل… يوميات قائد”، من خلال إعادة لملمة شظايا السيرة الذاتية المبعثرة لهذا الرجل.
في كتابه الذي نتولى عرضه يقسّم بريزّي بحثَه إلى سبعة عشر معنوَنا، غطّت كافة المحطات التاريخية الحاسمة في حياة حنّبعل. بنى وِفقها الباحث يوميات الرجل معتمِدا في ذلك مرجعية تاريخية مهمّة انشغلت بإمبراطورية قرطاج.
يبدو حنّبعل في هذه السيرة على ثقافة عالية، فنّية وأدبية ودينية، إلى جانب فطنة لافتة وقدرة عسكرية فائقة. فقلَّ أن اجتمع عنصرا العبقرية القيادية والثقافة المتينة لدى رجل عسكري، أكان في القديم أم الحديث.
لعلّ حنّبعل كان واثقا من نفسه حين قال في وصيّته: “أودّ أن أخلّف درْسا إلى الأبد” لفرادة مساره الجامع بين بَأْس القوة وعمق الثقافة. بعزيمة لا تكلّ خاض حروبه، يروي عن نفسه قائلا: عرفت سُكر الصراع وزهو النصر وما طلبتُ من الآلهة أن تباعد بيني وبين البلايا، ولكن أن تقيني شرّ اليأس.
ليس بالأمر الجديد على أهالي “قرت حدشت” أو “القرية الحديثة”، التي باتت تُعرَف بقرطاج، أن يتوزّعوا في أصقاع العالم، أكان في القديم أم في الحديث، مع حفاظهم على رباط قوي بمهوى الأنفس، قرطاجة، التي باتت “تؤنس”، أو “تونس” كما هو دارج في القول. فالقديس أوغسطين وليدُ ثاغست (سوق أهراس) حين ألقى به القدر في ميلانو بيّاعا للكلمات كما يقول عن نفسه، حين كان يدرّس الخطابة، لم يطق صبرًا وأقفل راجعا إلى إفريقية، يقول في “الإعترافات” مخاطبا ربه: “كنّا نبحث عن مكان نقدر فيه أن نكون أكثر خدمة لك، فعدنا إلى إفريقية”.
وحنّبعل رغم أنّه قضّى معظم مشوار حياته خارج قرطاجة، أكان في إسبانيا أو إيطاليا أو بلاد الشام أو في المنفى الأرميني، فقد كان مسكونا بسحر العودة إلى قرطاجة. يقول في يومياته: “رغم بعد السنوات لم أقدر على التخلّص من الحنين إلى مسقط رأسي”.
ثمة فكرة جوهرية تطغى على مؤلّف جوفانّي بريزّي تتمثّل في رصد العناصر الجوهرية التي شكّلت شخصية القائد القرطاجي. ومن بين تلك العناصر الحاسمة والقوية الرّباط المتين بين الوالد وولده، بين أميلكار الأب وحنبعل الإبن، وإن لم تسعف طبيعة الحياة السياسية الوالد بالحضور الدائم جنب الابن. لكن التربية النفسية والتعليمية التي وضَعَ لبناتها الأب ساهمت مساهمةً فعّالةً في صَقْل شخصية الابن كما يشتهي الوالد، وهي التعويل على تهذيبه معرفيا في سنّ مبكرة.
كانت الثقافتان البونية واليونانية حاضرتيْن بعمق في تعليم الصبي فضلا عن إتقان اللغات، وقد كان تعلّم جملة من اللغات من سمات القرطاجي الجائل في المتوسط وضفافه. كان حنّبعل يتقن الإغريقية واللاتينية، فضلا عن لغتين إيبريتين ولهجات سلتية، ناهيك عن البونية والنوميدية، بما كان يغنيه عن وساطة المترجِمين عند تعامله مع جنده؛ لكن في صميم ذلك التعليم حضر الجانب الديني جوهريا كما يبيّن جوفانّي بريزّي. وقد كان ذلك التكوين الديني لحنّبعل ممزوجا بمسحة عقلانية متقدّمة، سمحت له ببناء رؤية متّزنة في التعاطي مع الشأن الغيبي. إذ كانت فلسفة الدين في المنظور القرطاجي، رغم طابعها الوثني، متمحورة في إيمان بقوة متعالية مهيمنة على سائر الكون، تنزع قربا نحو الواحدية الخالصة والتجريد.
كان الإلمام العميق لحنّبعل بالثقافات المتوسّطية قد جعله على دراية مهمّة بأساطير الإغريق والتصوف والفلسفة. فقد كانت طبيعة الدولة القرطاجية الممتدّة على ضفاف المتوسط تملي على مواطنها أن يكون متوسّطي الثقافة. وعبقرية قرطاج في صهر ثقافات المتوسط داخل الحاضنة الفينيقية السامية التي نبعت منها. ورغم التكوين اللاهوتي العميق لحنبّعل، كان الرجل ميّالا بطبعه إلى البعد العملي، مرتئيا أن بهاء الدين في حضوره المعيشي في الأفعال بالأساس.
وبموجب هذه الخلفية الرؤيوية كانت العقيدة العسكرية لحنّبعل مشبَعة بالحسّ الديني البوني، وهو العنصر الرئيس الذي تقاسمه قادة قرطاج، أميلكار وحنّبعل وشقيقه صدربعل.
كان ثِقل الرسالة الدينية العسكرية قويّا لدى حنّبعل، فقد كان يتمثّل ذلك في علاقة وثيقة بالألوهية تجلّت في تردّده الدائم على المعابد. والجلي كما يُبرز مؤلّف الكتاب أنّ الحسَّ الديني العميق لدى القادة العسكريين كان من سمات الجيوش السلتية والإيبيرية أيضا، فقد كان الملوك والقادة يشْبِهون الشامانيين المستودَعين على الأسرار الإلهية، وليس غريبا أن كان ملوك مملكة صور مفوَّضين من قِبل الآلهة.
لقد مثّل مسعى خلق متوسّط سامي، يدين بالولاء لقرطاجة، هدفا أعلى لحنّبعل؛ لكنّ روما التي زرعت أعوانها في شتى أنحاء المتوسّط شكّلت عائقا فعليا لطموحات الرجل، مع ذلك لم ينثن واختار مهاجمة الخصم في مجاله الحيوي الضيق في شبه الجزيرة الإيطالية، مباغتا إياه عبر حصنه الشمالي من جبال الآلب.
رغم عدم توازن القوى بين قرطاج وروما عوّل القائد القرطاجي على الذكاء والمكر
ورغم عدم توازن القوى بين قرطاج وروما (بلغ تعداد جيش حنّبعل حينها 45 ألفا في مقابل جيش روما البالغ 770 ألف مقاتل) فقد عوّل القائد القرطاجي على النوعية والإستثمار في الذكاء والمكر، أكثر منه على العناصر التقليدية في الحروب عصرئذ. فكان يملي على جنده التدرب على السلاح والرياضات المتنوعة جنب التحصيل الثقافي العسكري، بالاطلاع على مؤلّفات فنون الحرب والتكتيك والاستراتيجيا، وعلى التمعّن في السِّيَر العسكرية للقادة العظام مثل الإسكندر العظيم، وفيليب الثاني المقدوني، وأنتيغونوس الأول، ومونوفثالموس المقدوني، وديميتريوس بوليوركيتيس المقدوني.
وبرغم ذلك الخُلق العسكري، ثمة اتهام لاحق للرجل بشأن التخلّص من العناصر غير الوطنية في جيشه، أي غير القرطاجية، حين أمْلت الضرورة ذلك، ودفعهم في معارك خاسرة لا أمل للفوز فيها، أي بما يشبه المجزرة المبيَّتة. لكن اليوميات تبرّئ الرجل وتبرز أنه كان مترفّعا عن الانحدار الخُلقي الذي يأباه تكوينه العسكري. لكنّ عقيدته العسكرية الصارمة كانت تملي عليه إتخاذ مسافة من غير الأكفّاء من جنده، ولا سيما ممن لا يؤمَن لهم جانب، خصوصا في زمن كانت فيه الجيوش قائمة على عناصر المرتَزَقة بالأساس. إثنان وعشرون شهرا قضاها حنّبعل في إيطاليا لم يخسر فيها معركة، وضع فيها روما على حافة الهاوية بشكل لم تعهده في تاريخها من قبل.
يقول حنّبعل: “كإستراتيجي حاولت دائما أن أقرأ ما وراء الوقائع، وأن أكون سريع القرارات ومباغتا للخصم، وفي عملي ضدّ روما الذي أخذ حيزا مهمّا من مناوراتي، بعد القَسَم المقدّس، لم أتوان في استشارة أبناء البلد ممّن لا يكنّون لي ضغينة. فقد نسجت علاقات في أرض الخصم إمتدّت على كافة التراب الإيطالي، حتى داخل حيز روما ذاتها. وفضلا عن الخطط الدقيقة التي رسمتُها لاجتياز جبال الآلب، أبرمتُ بعض التحالفات مع بعض القبائل في طريقي. واستعنتُ بشبكة واسعة من العيون والمخبِرين، يعود إليهم الفضل في إلحاق عديد الضربات الموجعة بالخصم، مثل عملية كلاستيدوم أو فرار رهائن تارانتو. بعبارة مختصرة اتّبعتُ كلّ سبيل في تجميع الأخبار التي رأيتها لازمة لمخطَّطي. كما أرسلتُ إلى ميدان الخصم فارِّين من الجنديّة غير حقيقيين بقصد الإيقاع بالعدو، ولم أتوان أثناء حروبي في توظيف الإنسان والحيوان لبلوغ ما أصبو إليه، من الفِيَلة إلى الأفاعي، بإلقاء براميل الثعابين السّامة في سفن العدو، كما الشأن مع يومينس برغامو. وحاولتُ ضمن إستراتيجياتي بثّ الأخبار الزائفة في صفوف الخصم، وزرع بذور الفتنة في قواته وبين سياسييه، حتى إستطعتُ السيطرة سياسيا على عدة جهات تابعة لروما، مثل كابوا وسيراكوزه وتارانتو. بخلاصة حاولتُ توظيف أي وسيلة من وسائل الحرب السرية والعلنية، لكن في زحمة هذا الصراع كنت دائما أقدِّر شجاعة الخصوم وفطنتهم، الأحياء منهم والأموات. ولو بُحت بسرّ عبقريتي القيادية لقلتُ إعتماد الفطنة بالأساس، تلك الخصلة التي ضمنت لي قدرة التحكم السريع في الأوضاع المباغتة وإيجاد الحلول العاجلة خارج التعاطي التقليدي مع الطوارئ. ولمن يريدُ إقتفاء أثري وتقليدي أترك وصيةً وحيدةً وهي التعويل على التفكير بحرية مطلقة.”
ملامح مشروع حنّبعل الجيوسياسي المناقض لمشروع روما
في آخر الكتاب يحاول جوفانّي بريزّي الإتيان على ملامح مشروع حنّبعل الجيوسياسي المناقض لمشروع روما قائلا: “أنشأَ القرطاجيون نظام المدن (poleis)، وهو ما يعني تجمّعات للمواطنين، أو كيانات دُول متكوِّنة من مواطنين تنتظم حياتهم وفق دساتير؛ فيها السلطة السيادية محميّة ومراقَبة بمجالس، ويتكوّن أعضاؤها من صفوة القوم ومن رؤساء العائلات المتنفّذة. يُخوَّل لتلك المدن بدورها إنشاء المستعمَرات المستقلّة الشبيهة بالوطن الأم. إذ يتعلّق الأمر بشيء يغاير جوهر النُّظم الشرقية في الدول القديمة التي تتمحور حولَها كلّ الأمة؛ إنّه شيء مختلف عن الفضاء الهائل التابع للأُسر الحاكمة الآشورية، سواء في دجلة أو في بابل، ذلك الذي تشكّل بقصد تجميع كافة الثروات وليكون مقرّا لسائر الآلهة؛ وهو مختلفٌ كذلك عن المقرّات الثلاثة المتحولة للأخمينيّين، ومختلفٌ أيضا عن الأسواق التجارية الشرقية الكبرى والمدينة-المعبد عند المصريين. كانت المدن القرطاجية البحرية مراكزَ مدنيّة نشيطة، وهي بالتأكيد حصينة، وتخلو من طبقة المحاربين، بل فيها طوائف من أصناف شتى؛ وكانت تَعرف دائما كيف تدافع عن نفسها.
في هذا النموذج السياسي يزعم القرطاجيون شرفَ الدفاع عن الحرية أمام الطغيان الروماني، معتبِرين روما ولواحقها محتَشدات ضخمة، يمكن أن تضمّ قصورا فسيحة، وأسواقا مكتظة، ومعابد رحبة، ومسارح هائلة، فهي يمكن أن تكون كلّ شيء إلاّ أن تكون مدنا. فهناك قِيمٌ تفتقر إليها التجمعات الرومانية وفق منظور قرطاج. لقد أدرَجَ أرسطو، أثناء تعرّضه إلى مختلف أنواع الدساتير في المدن الإغريقية، في “كتاب السياسة” (ج2/ 11)، حالة قرطاج، المدينة الفينيقية-البونية الكبرى، وذلك ضمن النموذج السياسي المركَّب، بخلاف حالتي إسبرطة وكريت، ناعتًا نظام قرطاج السياسي بالدستوري المختلط، الذي تتمازج فيه عناصر المَلَكية والأرستقراطية والديمقراطية.”
المؤلف جوفانّي بريزّي أستاذ التاريخ القديم في جامعة بولونيا الإيطالية. من أبرز المختصّين في تاريخ حنّبعل والدراسات القرطاجية. يشرف على دَوْريتيْن أكاديميتين: “مجلة التاريخ القديم” و”مجلة الدراسات العسكرية” في إيطاليا. من مؤلفاته أيضا “سكيبيو وحنّبعل” و”غزو بيت المقدس”.
* أكاديمي تونسي مقيم بإيطاليا.
** “أنا حَنّبعل… يوميات قائد”، تأليف جوفانّي بريزّي، منشورات لاتيرسا (باري-روما)، باللغة الإيطالية، 2019، 339 ص.
شارك رأيك