الظاهر أنّ حركة النهضة أصابها داء النسيان وباتت تتصرّف منذ مدّة على أساس أنّها “ستخلّد”، لأنّها من “رحِم” هذا الشعب والتعبير الأصيل عنه كما يردّد أعضاؤها. حيث اعتقدت واهمة، وما زالت، بأنّ كلّ ما ارتكبْته من أخطاء، حتى لا نقول شيئا آخر، قد طَوَاه النسيان. لكن ذاكرة الشعب التونسي ليست، كما يقال عادة، قصيرة.
بقلم خالد عبيد
كثيرا ما نردّد بأنّ التونسي ينْسى بسرعة ولا يتذكّر أيّ شيء في ظرف زمني وجيز، وقد نُسب هذا القول حتى إلى الزعيم الحبيب بورقيبة، لكن، لنفرض أنّ ذلك صحيحٌ، فالظرفية التي كان فيها التونسي آنذاك ليست هي نفسها الآن، من ذلك، لم تكن هناك وسائل التكنولوجبا الحديثة التي بإمكانها أن “تخلّد” حدثا مَا ضدّ النسيان، والتي بإمكانها أن توصل المعلومة إلى آخر نقطة من تراب تونس.
لكن، الظاهر أنّ حركة النهضة تعوّل كثيرا على أنّ التونسي ميّال بطبعه للنسيان، وأنّ ذاكرة الشعب التونسي، كما يقال قصيرة، لذلك، اعتقدت واهمة، وما زالت، بأنّ كلّ ما ارتكبْته من أخطاء، حتى لا نقول شيئا آخر، قد طَوَاه النسيان، وعلى ضوء ذلك، ارتأت أن تتحرّك وفق هذا الوهم الذي استقرّ في قرارٍ مَكِينٍ.
وهنا الخطأ الأكبر!
كغيره من الشعوب التواقة للعدل التونسي لا ينسى أخطاء حكامه
صحيحٌ أنّ التونسي يتحمّس بسرعة كبيرة لشيء ما، بل ويفور ويتوهّج تحرّقا لعمل مَا، ثمّ سرعان ما يَخْبُو أَوَاره وينطفئ لهيبه الجسدي والنفسي، تمامًا مثل توهّج النار وانطفائها، وهي خاصّية ينفرد بها التونسي منذ أحقاب كما نجد صداها حتى لدى الشاعر التونسي: أبو القاسم الشابي في مذكّراته، لكن أن نعتبره يعيش حالة مرَضِية تكاد تقارب مرض الزهايمر وهي النسيان المتكرّر وعدم التذكّر، فهذا شَطَط يرْقى إلى الوهْم ويعبّر عن جهْل حقيقي بالنفسية الجماعية للتونسيين وخاصّة بمزاجهم العام.
وذلك، لأنّ التونسي يعْطي انطباعا بأنّه كذلك، وبأنّه لا يبالي بما يدور حوله، وبأنّه يغضّ الطرف طواعيةً عمّا اقْتُرِف في حقه أو غير ذلك، لكن، وفي لحظة غير منتظرة، سرعان ما ينقضّ عليك دون أن تدْريَ، ويحمّلك كلّ المسؤولية ويذكّرك بكلّ ما ارتكبته، وهنا تكتشف أنّ النسيان آفة لم تتملّك بالتونسي، بل وتذهب إلى الأقصى عندما تفسّر سلوكه تجاهك باللؤم.
هكذا كان التونسي مع فرنسا لمّا أجبرها على الخروج وسارع إلى استهداف كلّ ما يُرْمز إليها في تونس بعد أن كانت مطمئنةً آمنةً بأنّ وجودها في تونس بات أزليُا، وهكذا كان مع البايات لمّا أنهى حكمهم وتشفّى في نهايتهم، وهكذا كان أيضا مع الحبيب بورقيبة لمّا تعنت في البقاء أكثر من اللازم، وهكذا كان كذلك مع زين العابدين بن علي الذي لم يصدّق هو وكذلك “أزلامه” يومًا أنّ التونسي سينقضّ عليهم كـ”الذئب” على حدّ تعبير أحدهم في تلك اللحظات، لحظات الصدمة، وهكذا سيكون أيضا مع “روّاد” ما بعد 2011 في تونس، وخاصّة هنا حركة النهضة.
لكن، الظاهر أنّ حركة النهضة هي التي أصابها النسيان وباتت تتصرّف منذ مدّة على أساس أنّها “ستخلّد”، لأنّها من “رحِم” هذا الشعب والتعبير الأصيل عنه كما يردّد أعضاؤها، أو بالأحرى، هي صدّقت نفسها أنّها هي المؤتمنة على “الثورة”، – أيّة ثورة؟!- وأنّها ساهمت فيها بـ”نضالاتها” و”تضحياتها”، وأنّها متجذرة في عُمْق الوعي الشعبي التونسي، وعليه،
لا يمكن لأيّ كان من طُغاة العالم أن يَنْتزعها ويقتلعها، وها قد حاولوا ففشلوا وبقيت هي! ورحلوا هم غير مأسوف عليهم، وهنا بالذات وهمها الأكبر!
مسؤولية حركة النهضة في كلّ “المصائب” التي يعيشها التونسيون منذ 2011
لأنّ هذه المرّة، قد انتُزِعت الغِشَاوة التي انْطلت على التونسي في ما بعد 2011 حول “آلام” النهضة و”مظلوميتها” و”ورعها” و”تقواها”، وحلّ محلّها شُعورٌ آخر طاغٍ، ويتعاظم أكثر فأكثر لدى نسبة متزايدة من التونسيين تُحمًّلُ فيه حركة النهضة جزءا كبيرا من مسؤولية كلّ “المصائب” التي يعيشها التونسيون منذ مدّة و… حاليا.
وإذا كنّا ندرك أنّ الوضع لن يتحسّن في قادم الأيّام، فبإمكاننا تخيّل ازدياد حجْم هذا الكُرْه المبطن وخاصّة المكبوت حاليا، كما نعتقد أيضا، أنّ التنفيس عنه مسألة وقت لا غير! وهذه المرّة ستجد حركة النهضة نفسها أمام “شعبها” وليس كما كانت من قبل في مواجهة “جلاّديها”، والظاهر أنّها لم تستعدّ لهذا الأمر! لأنّ تصرّفاتها تنبئ بذلك!
ولعلّ أبلغها التصريحات الأخيرة لرئيس مجلس شوراها الذي “توعّد” بأنّ النهضة لن تتنازل أبدا، والإنتخابات التشريعية على الأبواب، على تعويضات ضحايا عناصرها خلال فترة “الاستبداد”… وهذا الوعيد هو مظهر لهذا الإنْفصام الذي يعيشه النهضويون في تونس، انْفصامٌ مع واقعهم، وانفصامٌ مع التونسيين، وقد أدّت هذه الحالة المرَضية إلى التوهّم بأنّهم هم الحلّ، وبأنّ أمانيهم ورغباتهم هي في تماثل تامّ مع ما يرجوه التونسيون، وبأنّهم سيُجْزوْن
أفضل الجزاء على إخلاصهم لشعبهم ووفائهم له، لأنّ “شعبهم” هو “مسلم ولن يستسلم” لجوقة “العلمانيين” والحداثيين” والملحدين”، ومهما كان هناك مِن عدم الرضاء على ما قامت به حركة النهضة طيلة هذه السنوات، فلن يعاقبها “شعبها”، بل سيجد نفسه يصوّت لها، لأنّها هي الأقرب إلى قلْبه وعقله! ما دامت هي الأقرب إلى دين الإسلام؟! وهل هناك من دليل على ذلك أفضل من “وأْدِها” لمشروع التغريبيين المخالف لتعاليم القرآن والمتعلّق بالمساواة في الإرث بين الذكر والأنثى؟! ورفضها للتجاهر بالإفطار في شهر رمضان؟! الخ.
إنفصام النهضة : من “خطّ الإسلام الأصيل” إلى “التوافق” مع العلمانيين
صحيحٌ أنّ هذا ما يُسَرّ به للأتباع والمريدين دون أن يُعْلن عنه صراحة وجهْرًا، كما سيقع إشاعته باحتشام لدى الناس خلال الحملة الإنتخابية، رغبةً من الحركة في أن تبيّن للمتعاطفين معها وحتى لمن انفضّ عنها ولو إلى حين، أنّها ما زالت باقية على العهد، حتى وإن تراءت عكس ذلك!
وهنا بالذات تُعوّل الحركة على آفة النسيان المزدوج، نسيان عموم التونسيين لما يعتبره البعض منهم “جرائمها” بحقهم، ونسيان مريديها حيادها عن “خطّ الإسلام الأصيل” وتحالفها مع “المارقين” و”الخارجين عن الملّة” على غرار “الحداثيين” و”الماسونيين” و”العلمانيين”… تحت مسمّيات ما أنزل الله بها من سلطان في أذهانهم على غرار “التوافق”!؟
لكن، هل أنّ التونسي ينسى فعلا؟ يقيني أن لا، فهو ليس شعبا “نسّاءً”، بل هو شعب “يُخزّن”، وعندما يمتلئ “التخزين” “ينفجر” دون سابق إعلام في غالب الأحيان، فلن ينسى التونسي أبدا، حتى وإن أظهر عكس ذلك، كلّ من كان له اليد الطُولَى في انبثاث السلفية التكفيرية في تونس، وكلّ من كان له يد في “التغْرير” بأبنائه ودفعهم إلى المحرقة السورية واستباحة دماء أبناء وطنهم تونس، وكلّ من نَهَب قوته وقوت عِياله باسم “تعويض” عن “نضال” لا ناقة له فيه ولا جمل، وكلّ من يتحمّل مسؤولية مَا في سيلان دم أبنائه من العسكريين والأمنيين والمدنيين.
لا يمكن أبدا أن تمْحُوَ من ذاكرة التونسي تلك المشاهد المُرْعبة والمَهُولة لأبنائه المذبوحين والمُنَكَّل بجثثهم، أبناء الشعب ومن رَحِمِه.
لن ينسى أبدا التونسي تلك المشاهد لأمَّهَاتٍ ثَكَالَى وزوْجات تَرَمّلن وهنّ يَعْوِلْن ويَنْدُبن ميّتهن، لن تُنْسى أبدا تلك المشاهد المأساوية من ذاكرة التونسي حتى وإن خزّنها فإلى حين، ولن يذهب هدْرا دم كلّ من اغتيل غدْرًا وغِيلَةً في تونس وعلى رأسهم الشهيد شكري بلعيد، لأنّ إصبع التونسي، كلّ أصابعه كانت تشير، وما زالت، إلى المسؤول عن كلّ ذلك، وهي حركة النهضة!
وفي كلّ مرّة، تقع هنا أو هناك عملية إرهابية في تونس، إلاّ وسَرَح ذهْن التونسي بعيدا إلى هذا السرطان الذي حلّ ببلده ولم يعرفه من قبل، بل وكان يظنّ واهمًا قبل 2011 أنّه بمنْأى عنه، فإذا به بات في مرْماه، وهنا بالذات، لن ينسى بـ”فضل” مَنْ وصل إلى هذه الحال!؟
كما أنّه لن ينسى حتى وإن خيّل للبعض عكس ذلك، كيف بات حاله المَعاشي في الدَرَك الأسفل من الحياة بينما آخرون في النَعِيم يَرْفَلُون وفي “غنائم” الحكم” يَتبخْتَرون وبـ”التعويضات” مُتمسّكون بل يهدّدون إن لم يتحصّلوا عليها!
ثمّ بعد كلّ هذا نزعم أنّ الشعب التونسي “نسّاي”!؟ ولن يفعل أيّ شيء !
هم بالتأكيد يتوهّمون وفي أبراج خيالاتهم العالية يسْبحون، فيرون “الانقضاض” بعيدا ومستحيلا وأراه قريبا، قريبا جدّا…..أكثر ممّا يتصوّرون هم ونحن أيضا!
وأخيرًا وليس بآخر، لم أجد أفضل ما أختم به إلاّ هذه الآية الكريمة: “كذّبوا بآياتنا كلّها فأخذْنَاهم أخْذ عَزِيز مُقْتَدر”، صدق الله العظيم.
* جامعي.
شارك رأيك