بإمكان الرئيس المؤقت، محمد الناصر الذي تسلم مهامه أمس، الخميس 25 جويلية 2019، وفي حدود المدة المحددة له، سواء الدنيا، أي الشهر ونصف الشهر، أو القصوى، أي الأشهر الثلاثة، النجاح في القيام بما يحتّمه الوضع المأتمي للبلاد لخلاصها من حالة الخطر الداهم الثابت رغم استهانة الساسة به، ومن ذلك التسريع بانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية.
بقلم فرحات عثمان *
وفاة رئيس البلاد صبيحة عيد الجمهورية، ولئن كانت حتف أنفه، تذكّرنا، نظرا للظروف المحيطة بها، بمأتم آخر حدث في نفس اليوم، أي اغتيال النائب محمد البراهمي. وهذا يحتّم السؤال إلى متى دوام أسباب مثل هذه المآسي التي تجعل من العيد مأتما، مشوّهة البلاد وجمهوريتها؟
الجمهورية، مبدئيا، هي سلطة الشعب؛ إلا أنها سلطة فعلية لا إفتراضية كما أصبحت عليه اليوم عندنا: حقوق لا واقع لها وحريات منعدمة إلا في خيال من يتكلم عنها من أهل الخداع السياسي والديني. بل هي أصبحت تقترن بفواجع، ذهبت إلى حد الجريمة، مثل التي ذهب ضحيتها النائب البراهمي في مثل هذا اليوم من سنة 2013. وحدّث ولا حرج عن التصرفات العديدة المخادعة للرأي العام التي أصبحت متفشية وعادية، كالتي أحاطت بالتعاطي مع صحة رئيس البلاد؛ ولعلها زادت في تدهورها.
هذا إضافة إلى أنه، بالنسبة للجريمة السابقة الذكر، وغيرها مثلها، لم يتم بعد الكشف عن كل حقائقها. وأما بالنسبة لوفاة الرئيس الراحل، فرغم أنها كانت في نهاية عهدته التي التزم فيها بالعديد من الوعود والعهود في مجال الحريات العامة، فهي لم تترك ما فيه الخير لصالح الشعب من تفعيلٍ للحقوق التي أتى بها دستور وقد بقي حبرا على ورق.
وها هم ساسة البلاد، عشية وفاته، يتشاورون في أهم أمور الوطن، إلا أنها من زاوية نظرهم الوحيدة، وهي عقد الإنتخابات، وبالأخص الرئاسية اليوم. هذا يتم طبعا باسم احترام الدستور رغم تواصل تجاهل أهم ما فيه مما سبق وذكره، وأيضا مما تعلق بإرساء المحكمة الدستورية. وذا طبعا دون أي سعي منهم نزيه لإماطة اللثام عن جريمة اغتيال البراهمي وغيرها من الجرائم، إذ الحال نفسها مع الجريمة السياسية الكبرى الأخرى التي ذهب ضحيتها شكري بلعيد حيث لا تقدم البتة في البحث أو النية الخالصة في معاقبة زبانية الإجرام.
واجب احترام الدستور
سارع أهل الحل والعقد حال الإعلان الرسمي بوفاة الرئيس بالاجتماع، والكل لا يتحدّث إلا بالدستور وضرورة احترام مقتضياته، دون ترك الإكتفاء بالشكليات للعناية بالأهم الجوهوي، مثل هذا الذي بيّنت وفاة الرئيس ضرورة تلافيه في أقرب وقت، أي غياب المحكمة الدستورية، حجر أساس البناء الدستوري. فالكل يعلم أننا اليوم في حالة إضافية من الخرق السافر للدستور، إذ من صلاحيات هذه المحكمة المنعدمة الإجراءات التي تم القيام بها خارج الشرعية، مثل تنصيب رئيس البرلمان نفسه رئيسا بالنيابة للبلاد.
ولا شك أنه أحسن الفعل بذلك، قطعا للتجاذبات والمزايدات حول تلك الشرعية المفقودة، وأن مسؤوليته المزدوجة كرئيس للبرلمان وللجمهورية بالنيابة تمكنه من التصدّي لما يشوه حاليا المنظومة القانونية التونسية بصفة مزرية. لذا، نأمل ألا يغض النظر عن هذا الأمر الخطير فيعمل جاهدا على أن يكون من أهم مساعيه، بل أولها قطعا، خلال هذه المدة الوجيزة على رأس الجمهورية ومجلس نوابها، أي ثلاثة أشهر على الأكثر، على تلافي اللخبطة الحالية في الشرعية بهذا التظاهر المفتعل باحترام الدستور، وذلك بفرض الإنتهاء في أقرب أجل من تعيين المحكمة الدستورية خلال المدة التي يسمح له بها الدستور.
أما المساعي الأخرى، وهي أيضا من الأهمية بمكان، فالضرورة القصوى للخروج بالبلاد من حالة اللاقانون السافرة بحمل السلطة التشريعية أو التنفيذية، أو حتى الإثنين في نفس الآن، على إبطال أو إيقاف تنفيذ القوانين الباطلة إلى حين الفراغ من الإصلاح التشريعي الشامل؛ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، التسريع في كشف الحقائق عن الإغتيالات السياسية وغيرها من المسائل الشائكة المتعلقة بالأمن العام للبلاد، كقضية الجهاز السري لحزب النهضة ونشاط البعض الآخر ضد صالح البلاد وشعبها.
واجب إنقاذ الوطن
طبعا، لن يكون الأمر سهلا بالنسبة للرئيس الجديد بالنيابة، إذ مهمته المؤقتة لا تتجاوز، على الأقصى، الأشهر الثلاثة وبصلاحيات منقوصة عن صلاحيات الرئيس التي هي بنفسها محدودة في النظام السياسي القائم. فالدستور مثلا لا يمنحه الحق الرئاسي في المبادرة باقتراح تعديل للدستور أو اللجوء إلى الإستفتاء أو حل مجلس النواب. إلا أنه لا يمنع بتاتا الرئيس بالنيابة من الحق الهام للمؤسسة الرئاسية الذي هو مناط الفصل 80 للدستور، ألا وهو الإعلان عن حالة الخطر الداهم المهدد لكيان وأمن البلاد واستقلالها ما يتعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة؛ وهي حال البلاد اليوم رغم تجاهله من طرف ساستها للركون لما فيه المنفعة الذاتية الأنانية.
إن الحال الإستثنائية اليوم الناتجة عن وفاة الرئيس لا تتنافى مع وضع الشغور في رئاسة البلاد، ولا تمانع أن للرئيس بالنيابة حق إتخاذ كل التدابير اللازمة التي تحتمها الأوضاع، بعد استشارة من يجب استشارته وإعلان ذلك ببيان للشعب. فالمدة المقررة لتكلفه المؤقت بمنصب الرئيس بالنيابة كافية لتأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في الأجل المحدد لذلك، وهو مدة شهر مبدئيا؛ ولعله يكون أكثر بقليل عند استمرار الحالة الإستثنائية، انطلاقا من إعلان تدابير الإنقاذ في بيان الرئيس بالنيابة للشعب.
في هذه المدة، يكون مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم للقيام بمسوؤلياته التي تجاهلها إلى اليوم، أي انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية مدار نظره وموافقة المنظومة القانونية المعمول بها اليوم بصفة غير شرعية مع مقتضيات الدستور المولود ميّتا فيما يخصّها.
خلاصة القول أنه بإمكان الرئيس المؤقت، في حدود المدة المحددة، له سواء الدنيا، أي الشهر ونصف الشهر، أو القصوى، أي الأشهر الثلاثة، النجاح في القيام بما يحتّمه الوضع المأتمي للبلاد لخلاصها من حالة الخطر الداهم الثابت رغم استهانة الساسة به.
هذا لا يقتضي إلا حسن النية وسلامة المقاصد وتغليب المصلحة العليا للشعب على المصالح الحزبية والشخصية الضيقة. ويكون الدليل على ذلك في اللجوء للفصل 80 من الدستور.
بذلك وبذلك فقط، يوفي رئيس مجلس النواب، الرئيس الحالي بالنيابة للبلاد، بالقسم الذي أداه عند تسلّمه مهامه الجديدة، أي الحفاظ على استقلال تونس وسلامة ترابها، وبالأخص احترام دستورها حقا وتشريعها كما حدده الدستور لرعاية مصالحها؛ هذا هو حقا الالتزام النزيه بالولاء لتونس!
* ديبلوماسي سابق وكاتب.
شارك رأيك