رحل الرئيس الباجي قايد السبسي، وشهدت مؤسسات الحكم تغييرا سلسا طبقا للدستور، وأبدى الشعب التونسي وعيا ديمقراطيا ودستوريا وتنظيميا مبهرا، لكن الرهانات تعددت والتحديات تضخمت والعراقيل والصعوبات تكاثرت وتنوعت.
بقلم مصطفى عطية *
لرئيس المكلف محمد الناصر في موكب عزاء الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي
من هذه الصعوبات مديونية ثقيلة واصفة بما تبقى لدى المواطنين من قدرة على الصمود، وهذه جحافل الإرهابيين تعود إلى تونس أوتطرد إليها بالقوة وبعضهم يتعمد الظهور في المظاهرات رافعا الأعلام السوداء على مرأى ومسمع من الجميع، وهذه الأزمات الإقتصادية والإجتماعية في ذروة تفاقمها، وهذه نقابات تجاوزت صلاحياتها وأصبحت تتظاهر حاشرة أنوفها في مسائل لا تعنيها، وحتى الحملة على الفساد التي دعمها الشعب بقوة فقدت زخمها وأثارت العديد من التساؤلات لدى الناس !
كيف ستتصرف حكومة يوسف الشاهد خلال هذه الأسابيع القليلة التي تفصلنا عن الإنتخابات الرئاسية والتشريعية ؟ كيف ستتصرف وهي تترنح أمام أعاصير هذا المد الكارثي الذي يخرب البلاد منذ ثماني سنوات دون هوادة، خاصة وقد أضيفت إلى كل هذه الأزمات تداعيات الزوابع في منطقة التي ننتمي إليها؟
أزمات خطيرة وتداعيات أخطر
كل التونسيين دون إستثناء، حتى الثورجيين والشعبويين منهم، متفقين على أن محصلة نتائج السنوات الثماني المنقضية ليست في حجم التطلعات التي طوحت بالتونسيين عاليا وبعيدا، وغذت لدى فئات الشعب وخاصة الشبابية منها آمالا كبيرة وهي التي قادت الحراك الشعبي وتصدت لكل محاولات الإلتفاف على أهدافه وبقيت تنتظر جني ثمار مغامرتها دون جدوى، أو حتى توفير الظروف الموضوعية لتثبيت الإيمان لديها بأن الغد سيكون أفضل. كانت خيبة أمل الشباب كبيرة جدا فتضاعفت حالات الإنتحار عشرات المرات وتكثفت عمليات الهجرة السرية بشكل غير مسبوق.
لم يتحقق منالتطلعات شيء يذكر فالإصلاح الإقتصادي والإجتماعي يكاد يكون منعدما والنعرات الطبقية والجهوية في تصاعد مخيف ومظاهر التشدد والتطرف تزحف بسرعة والإرهاب على عتباتنا ويطرق أبوابنا بعنف والتهديدات الداخلية والخارجية تطوقنا والمخاطر تداهمنا من كل حدب وصوب، وهي عوامل من شأنها أن تنسف تلك المكاسب الديمقراطية القليلة التي تحققت إلى حد الآن وتغذي الرغبة في إضرام تحركات شعبية غاضبة.
طبقة سياسية غارقة في الفشل الذريع وعاجزة عن إيجاد أبسط الحلول
ومع ذلك فإن أغلب الناشطين في الساحة السياسية مازالوا في واد آخر هو واد اقتسام الغنيمة رغم هزالها والتشدق بمصطلحات شعبوية وشعارات بالية كلما شعروا بأن البساط سحب من تحت أقدامهم. لقد تأكد مع مرور الأيام أن ما يسمى بالطبقة السياسية غارقة في الفشل الذريع وعاجزة عن إيجاد أبسط الحلول لأيسر المشاكل فما بالك بالأزمات الأمنية والإقتصادية والإجتماعية الكبرى المتفاقمة بشدة، وها ان الأمر وصل إلى حد شماتة السياسيين في بعضهم البعض وتحويل إختلافاتهم السياسية إلى عداوات ينشر غسيلها على سطوح الفضائيات.
من حق بعض السياسيين وتياراتهم معارضة الحكومة ونقد سياستها، فتلك من أصول الممارسة الديمقراطية السليمة، ولكن هذا لا يبرر مطلقا ما يأتونه من أفعال دنيئة ضد الوطن والشعب، ومنها تلك الدعوات الصريحة إلى تغذية الصراعات على أساس شعارات مسمومة مثلت في فترة من الفترات أهم أدبيات بعض الأحزاب الشعبوية، أونشر الإشاعات المشحونة بالحقد الأعمى والشماتة المقرفة في البلاد والشعب وذلك بتشويه السمعة في وسائل الإعلام الأجنبية وتعطيل العمل وتنظيم الإضرابات والإعتصامات العشوائية.
لم تكن الحكومات التي تعاقبت خلال هذه السنوات العجاف قادرة على مسك الثور من قرنيه ومجابهة الفوضى والإنفلات بما تمليه عليها مسؤولياتها بل رضخت في أكثر من مرة لشروط المحتجين والفوضويين وزادت في تشجيعهم على تحدي الدولة ومؤسساتها.
كما سقط السابقون يسقط اللاحقون وهكذا دواليك
لم يدرك هؤلاء إلى حد الآن ان الديمقراطية لا ترحم أبدا وأن قدر اللاعبين في ساحاتها أن يجلسوا على كرسي هزاز لا يمكن لأحد أن يتنبأ متى سيطيح بهم، فكما سقط السابقون يسقط اللاحقون وهكذا دواليك لأن الديمقراطية لا تغفر لمن يخل بقواعدها أو يتنكر لوعوده الإنتخابية ويخيب ظن الذين وضعوا ثقتهم فيه ليرتقي بأوضاعهم ويغير أحوالهم نحو الأفضل.
إن المشكل في بلادنا هو ان الذين يجلسون على كراسي السلطة والنفوذ لا يتعضون بما حصل لسابقيهم ولا يعترفون بأخطائهم بل يبررونها بٱختلاق الأعذار الواهية ويواصلون السير في الطريق الذي أوصل أسلافهم إلى منحدرات الهاوية.
من المؤسف الإعتراف بأن أغلب السياسيين الذين يملؤون الساحة بضجيجهم الإعلامي لم يستوعبوا قيم الديمقراطية وأحكامها، ومهما كان من أمر فإن الضرورة العاجلة تحتم إيقاف هذا المد الهادر من الخروقات والتجاوزات والصراعات والمشاحنات وبالتالي الإنكباب بجدية على حل الأزمات المتفاقمة في كل القطاعات دون استثناء، لأن المعالجة الجدية لكل مشاكل البلاد يجب أن تكون بعيدة جدا عن منطق الأجندات الشخصية وفوق الحسابات الحزبية والمزايدات المضللة التي إكتشف الشعب زيفها وبهتانها.
هذا ما يجب القيام به في هذا الظرف الدقيق والحاسم من مسيرة البلاد المتعثرة، فحتى الذين يرفضون السياسة المتبعة إلى حد الآن وينتقدونها بشدة عليهم إبداء حسن النية والإستعداد للمساهمة في انتشال البلاد من النفق الذي تردت فيه وتقديم بدائل واقعية، أما الرفض ومداومة الرفض لكل المبادرات فليس من السياسة في شيء ولا هو من الديمقراطية أصلا.
* صحفي وكاتب.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
شارك رأيك