من الشرق البعيد، بلغته وألوانه وثقافته وطقسه الإحتفالي الخاص… من ذاك الشرق الذي يأسرنا بأساطيره وموروثه وطقوسه وحضارته التي تعدّ واحدة من أقدم حضارات العالم… من ذلك الشرق الساحر الذي يختفي وراء سوره العظيم حلّت فرقة الباليه الصيني لتقدم عرضا ساحرا على ركح المسرح الروماني بقرطاج مساء الإثنين 5 أوت 2019.
“جئنا من مكان تلتقي فيه الشمس بالقمر للغناء كامل اليوم، دعوا أغانينا ورقصاتنا تقودكم إلى الحلم وتساعدكم على استحضار أجمل الذكريات…”
الرقص على موسيقى التآلف بين القلوب العاشقة
هكذا مهّدت الفتاة الصينية بفرنسية ذات لكنة عذبة للعرض الإستثنائي على جميع المستويات الذي قدم في إطار فعاليات الدورة الخامسة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي والذي أسر الجمهور وشد أنظاره للألوان الزاهية والرقصات البهلوانية الرشيقة وجمال الراقصين والراقصات وعذوبة الألحان والإيقاعات.
فقد إهتزّ ركح المسرح تلك الليلة الصيفية الحارة تحت أقدام أكثر من ثلاثين راقصا وراقصة تداولوا على تقديم لوحات كوريغرافية غاية في الروعة والإنسجام، عشر لوحات قدّمها الراقصون على إيقاع موسيقى الماء والنار، على موسيقى طبول الحرب وحالة السلم، على موسيقى التآلف بين القلوب العاشقة واستقبال فجر يوم جديد والإبتهاج بطلوع الشمس… لوحات استدعى لها مصمموها كل الألوان المائية والترابية والنارية والسماوية بكل تدرجاتها حوّلت المسرح الروماني مهرجانا من الألوان والإيقاعات… حركات متناغمة مدروسة في أدقّ تفاصيلها تقوم على تقنيات الرقص التعبيري على خلفية موسيقية هادئة حينا وصاخبة أحيانا، تتابع الراقصات فيهيّأ لك أنهن استنساخ لراقصة واحدة، نفس الطول والوزن، نفس النعومة والرقة والإبتسامة ونفس النظرة السابحة في الفضاء الرحب…
عندما يبلغ الجمال ذروته وتحضر الدهشة
تنوعت اللوحات العشر لتكشف لجمهور قرطاج ذاك المساء العذب عن ثراء الثقافة وعمق الموروث الحضاري للصين/تشونغوا ـ كما ينطقونها ـ بلد المليار وأربعمائة نسمة.
عندما يبلغ الجمال ذروته وتحضر الدهشة تعجز الألسن عن الإهتداء إلى مفردات التعبير عنه فتتحرّك الأيدي بالتصفيق الحاد… ذاك ما حصل لجمهور قرطاج وهو يتابع اللوحة تلو الأخرى وهي تنقله من حالة جمالية/إبداعية إلى أخرى، لوحات اجتمعت فيها كل مقومات الجمال والتناسق من الأزياء للموسيقى للسينوغرافيا والمشاهد الطبيعية على الشاشة العملاقة خلف الركح، لوحات تخللتها عديد الفقرات ربما كانت فسحة زمنية لراحة الراقصين وربما كانت تمهيدا لما سيأتي بعدها لينقل الحضور لطقس مختلف وحالة أخرى، تلك الفقرات تضمنت ألعابا بهلوانية وفنونا قتالية وخاصة فقرة الألعاب السحرية التي أدهشت الجمهور عندما بدأ الساحر في تحويل المناديل الملونة إلى زهرات نثرها على الركح ثم وبحركة لا أحد يدرك سرها أخرج العلم التونسي بين زهرتين.
لقد حمل عرض الباليه الصيني رسائل الحب والسلام والجمال باختلاف معانيه، عرض بعث موجات إيجابية في صفوف جمهور محترم تابعه على امتداد ساعتين تقريبا إلى لحظاته الأخيرة…
العروض الراقية والجميلة التي تحمل موروثا ثقافيا وإنسانيا ضاربا في القدم يزيدها المسرح الروماني بقرطاج رقيّا وجمالا خاصا… هذا الفضاء بثقل تاريخه وانفتاحه على حضارات العالم كان الفضاء الأمثل للباليه الصيني الذي التقت موسيقاه مع ما خلّفه مغنو الغوسبال قبل ليلة وموسيقات وتعبيرات فنية أخرى قبلها وأخرى ستأتي بعدها لتجسيد معاني التنوع والاختلاف ولقاء الثقافات على أرض تونس الخضراء.
ع. ب. (بلاغ).
شارك رأيك