عُرف الصبوح والغبوق، وهو تعاطي بنت العنب صباحا ومساء، في أوج حضارة الإسلام؛ فإذا عليّة القوم لا تفيق من سكرها كامل اليوم. هذه حال السياسة التونسية اليوم، التي زادت الإنتخابات أهلها عربدة.
بقلم فرحات عثمان *
بإعلان هيئة الإنتخابات عن القائمة الأولية للمترشحين للرئاسية ورفض كل المطالب التي كان من شأنها أن تأتي بالجديد والطريف، ثبت أن اللعبة الإنتخابية لن يكون من شأنها هذه المرة أيضا إيقاظ أهل السياسة من سكرهم الفاضح عن واقع البلاد.
فهم سكارى، لا يكفّون عن تعاطي صبوح النفاق السياسي وغبوقه. سكرهم هذا هو ذهاب التصرف عندهم عن الفعل المحسوس والكلام الهادف اللذان يفرضهما العقل والمنطق والأخلاق نظرا لحالة الشعب التعيسة، سواء لواقعه المعيش المزري، أو لقوانين البلاد المخزية، أو للدستور المعطّل في أهم مقتضياته، أو للفهم الفاحش لتعاليم دين البلاد.
ساسة سكارى عن الواقع المعيش
لقد ازدادت حال العديد من المواطنين تأزما في الأيام الأخيرة جرّاء الحرارة المجحفة التي تجتاح البلاد، ما أنتج انقطاعات متعددة ومتكررة للكهرباء والماء في العديد من مناطق البلاد، بما في ذلك أيام العيد. وليس هذا بالجديد في ظروف اجتماعية عصيبة ازدادت فيها الإحتجاجات والتهديدات بالإضرابات لانعدام التواصل بين المواطنين والمسؤولين.
فهؤلاء لا هم لهم إلا السياسة ومصالحها؛ وهاهي اليوم الإنتخابات تهيمن على كل مشاغلهم لينقطعوا أكثر عن هموم المواطنين اليومية. إنهم سكارى عن واقع الشعب بما يتجرعونه من لذائذ في الحكم لشدة تعلقهم بامتيازات النفوذ والرغبة فيه بواسطة انتخابات هي المطية لذلك؛ وهي تزيدهم سكرا على سكر، فلا صحوة تؤمل منهم لحال البلاد وشعبها.
ساسة سكارى عن فحش القوانين
لا شك أن هذه الحال المزرية أكثر خزيا مما كانت عليه. ذلك أن قوانين العهد البائد لا تزال قائمة؛ إلا أن ما يزيد فحشها لهو الخداع الذي يتعاطاه المسؤولون للتمويه على أن البلاد أصبحت ديمقراطية، وأن المواطن له فيها الحرية في الكلام.
فأي فائدة في الكلام، بل والصياح، إذا لم يأت بأية فائدة، بل لم يمنع المضرة، ولعله عجّل بها؟ أليس الأمل الكاذب في حقوقٍ وحرياتٍ لا تزال حبرا على ورق أمكر وأنكر، بل أضر بأمن المواطن، من الحال التي كان عليها تحت نير قوانين الديكتاتورية مع العلم بضرورة التزام الصمت للسلامة؟
ساسة سكارى عن مقتضيات الدستور
إن نظام الديكتاتورية، لئن كان متعجرفا، يعترف بمنطق القوة التي يفرضها على الشعب لاستغلاله، فذلك لاعتماده على قوانين جائرة. لذا، فإنه لم يسقط بعد بما أن الآليات القانونية التي استعملها على حالها، لم يتغير منها أي شيء عدا ترميمٍ بسيطٍ في أسلوب الكلام عند الساسة، مرّ بهم من منطق القوة الفظ إلى التلاعب بالألفاظ الناعمة الفضفاضة التي همّها الكذب والمغالطة.
كيف ندّعي، مثلا، الإلتزام باحترام الدستور عندما ندوس أهم مقتضياته، بمواصلة اعتماد القوانين التي أبطلها ؟ لقد أصبحت بلادنا دولة اللاقانون ببقاء القوانين التي أبطلها الدستور نافذة. وكيف ندّعي احترام سيادة الشعب بينما من شأن الإنتخابات تكريس سيادة من لا يعترف للشعب بحقوق ولا حريات، وإحكام قبضته عليه لمزيد استغلاله، تماما كما كانت الحال تحت نظام الديكتاتورية؟ وإنها لأتعس للخداع الديمقراطي المشار إليه.
ساسة سكارى عن الدين الصحيح
الفتنة أشد من القتل في الإسلام؛ وهي اليوم في ادعاء دولة القانون والديمقراطية في دولة اللاقانون، ديكتاتورية مبسترة بدوام تشريعاتها وتصرفاتها عند أهل الحكم. هذا ما يحمل العديد من أبناء هذا البلد اليوم على القول بأن موت المواطنة تحت نظام الديكتاتورية أفضل من كذبة المواطنة تحت نظام له كل مقومات نظام الطاغية إلا الشكل الخارجي.
وهذا من أخطر الأمور! إنه يشجّع، من ناحية، على عودة أنصار الديكتاتورية؛ من ناحية أخرى، يخدم مصالح من استفاد من سقوط النظام السابق لإقامة سلطة ليست أقل عجرفة، بل أشد منها لاعتمادها على فهم فاحش للدين ثبت تزمته. إنها ديكتاتورية في خطورة السابقة، بل لهي أكبر لأنها تغزو بلا هوادة اللاوعي الجماعي والمتخيل الشعبي. فعلاوة على قوانين الديكتاتورية المخزية التي تتمسك بها، هي تستعمل بنجاح الدين كسلاح لتخدير الشعب واستغلاله أكثر فأكثر لمصالحها ومصالح من تسعى في ركابهم من أهل الرأسمالية المتوحشة الذين أتوا بها إلى سدة الحكم.
إنها، دون أدنى شك، المستفيد الأول من حالة السكر الجماعي، بل هي الأسكر لتعاطيها أم الخبائث السياسية، خمرة تعتقدها من الجنان، لا غول فيها، كلها لذة للشاربين، بينما هي رجس للمواطنين، تخامر العقل عن معاناتهم. هذا هو السكر السياسي الحلال الذي تكشف عورته الانتخابات، بما أنها تشجّع على تعاطي الخداع والبهتان في صبوح وغبوق لا نهاية له ببلاد يتضورّ فيها عطشا العديد من مواطنيها للإنقطاع المتكرر للماء الصالح للشراب.
* ديبلوماسي سابق وكاتب.
شارك رأيك