هناك في تونس اليوم مخاوف وتساؤلات جدية حول وجود مؤسسات سبر أراء هي في الحقيقة مجرد واجهة لجهات سياسية تريد صناعة وتوجيه الرأي العام الإنتخابي باستعمال بعض القنوات التلفزية الخاصة المعروفة بعدم احترامها لأخلاقيات العمل الإعلامي مثل الحوار التونسي و نسمة.
بقلم فيروز الشاذلي
لاحظ الكثير من المواطنين هذه الأيام زيادة وتيرة الإتصالات الواردة عليهم من قبل أشخاص يعرّفون أنفسهم على أنهم عاملين مختصين في مؤسسات سبر أراء وغايتهم الوحيدة هي معرفة توجهاتهم الإنتخابية ونوايا التصويت في الإنتخابات الرئاسية القادمة.
إلى حد هنا يبدو كل شيء مقبولا ومنطقيا فهذه وظيفة مؤسسات سبر الأراء قبيل كل إنتخابات لكن غير المقبول هي الممارسات التي أصبحت تتسم بها أغلب هذه الشركات المتخصّصة والتي أصبحت تثير الشك في نفوس المواطنين العاديين و ازدادت التساؤلات حول مصداقية وحياديّة هذه المؤسسات التي ذهب بعضها في انحراف تام عن هذه المبادئ نحو صناعة الرأي وتوجيه الناخبين وليس سبر أرائهم و استدلال توجهاتهم الإنتخابية الحقيقية.
عدم الثقة في نتائج سبر الأراء نتيجة الممارسات المتبعة
من هذه الممارسات ما دأبت عليه بعض هذه المؤسسات في الفترة الأخيرة من توجيه الناخبين إلى مترشحين بذاتهم والدخول في نقاش مع الشخص المتصل به حول اختياره ويتم وضع اختيارات تخص قائمات إنتخابية معينة دون غيرها أمام الشخص المتصل به بدل أن يتم إعلامه بالقائمات المترشحة للإنتخابات التشريعية الموجودة كاملة في الدائرة الإنتخابية التي تخصّه، فهذا الإسقاط المتعمّد لبقية القائمات المترشحة لا يعدو أن يكون سقوطا مهنيا كبيرا وينمّ عن خلفيات لتوجيه الناخبين نحو مترشحين بذاتهم وهو ما يتنافى مع أصول علم الإحصاء وتحليل العينات الإنتخابية التي تفترض مسبقا وجود شفافية كاملة للمعلومات حول القوائم والشخصيات المترشحة لدى الشخص الذي يتم الإتصال به.
كذلك هناك شكوك أصلا حول جدية نتائج سبر الأراء نتيجة تعمّد بعض هذه الشركات الإتصال في المرة الأولى وأخذ معطياتك الشخصية كمنطقة السكن، السن والوظيفة ثم بعد ذلك يتصل بك نفس الرقم عديد المرات قبل كل موعد إنتخابي وعند فتحك للخط لا من مجيب ليتم تسجيل المكالمة ضمن عملية سبر الأراء مما يدل أن هناك عمليات تلفيق وتركيب مفتعل لعمليات سبر الأراء.
التأثير الحزبي وأصحاب المصالح الإعلامية
مما زاد الطينة بلة هو وجود جهات حزبية ترفع العمل الجمعياتي كواجهة براقة أمام التونسيين وهنا المقصود بجمعية “عيش تونسي” قد دخلت على الخط وقامت بعمليات تندرج ضمن أنشطة سبر الأراء ولكن هي في الحقيقة عملية تحيّل المقصود منها صنع وتوجيه تيار إنتخابي معيّن ليقع إستغلاله لاحقا كخزّان إنتخابي من قبل المترشحين التابعين لجمعية “عيش تونسي” وهو ما يتنافى مع أخلاقيات هذه المهنة وما يترتب عنه من استغلال لمعطيات شخصية دون وجه حق قانوني بل لأسباب سياسية بحتة.
هذا التداخل بين الأحزاب والمشرفين على عمليات سبر الأراء جعل من النتائج النهائية محل تشكيك خاصة أن عدد هذه المراكز تضخم بصورة كبيرة ليصبح عددها قرابة 26 مركز سبر أراء وهو ما يبيّن ما توفره عملية سبر الأراء من أموال طائلة يتم جنيها أساسا من قبل الأحزاب الكبرى حيث بيّنت عديد التسريبات مؤخرا أن حزب حركة النهضة لجأ إلى القيام بعمليات سبر أراء لصالح الحزب الخاص لاستشراف الساحة السياسية خاصة توجهات الناخبين في الإنتخابات الرئاسية لمساعدة الحزب في اتخاذ قراره السياسي قبيل الإنتخابات.
من جانب آخر نجد التداخل الذي أصبح واضحا للعيان بين الخط التحريري لبعض القنوات التلفزية و مراكز سبر الأراء فتقريبا كل قناة تلفزية أصبح لها مركز سبر أراء تعتمد عليه وبالصدفة العجيبة أرقامه الإحصائية لا تكون إلا على مستوى تطلعات هذه القناة مقابل عملية إشهار مجانية ودائمة لصالح هذه المؤسسات المتخصّصة وأبرز مثال على ذلك ما تقوم به قناة الحوار التونسي من تشريك مجاني لصاحب أهم شركة سبر أراء في تونس Sigma Conseil كمنشط ضمن الرباعي المرافق لمريم بالقاضي دون أن تكون له أدنى صفات المنشط السياسي بل فقط لاستقطاب مؤسسته وهو ما انعكس بالفعل على ممارسات هذه المؤسسة خلال عمليات استطلاع الرأي حول نسب المشاهدة فالكثير من المواطنين عبروا عن إستغرابهم من طريقة طرح الأسئلة التي تركز فقط على قناة الحوار التونسي خلال الإتصال بهم ويتم تجاهل القنوات الأخرى.
في نفس السياق نجد أن قناة نسمة تعمد إلى القيام بعملية إشهار مجانية لمؤسسات سبر الأراء التي يكون فيها نبيل القروي مالك القناة متصدّرا للترتيب والأدهى أن بعض هذه المراكز غير معروف أصلا من حيث تمويله والجهة المالكة الحقيقية مما يثير مخاوف وتساؤلات جدية حول وجود مؤسسات سبر أراء هي في الحقيقة مجرد واجهة لجهات سياسية تريد صناعة وتوجيه الرأي العام الإنتخابي.
مؤسسات سبر الأراء تبقى ضرورة في النظام الديمقراطي
إن مؤسسات سبر الأراء لها دور مهم في دعم الممارسة الديمقراطية وتطوير الأداء ومساعدة الناخب على حسن الإختيار و الإستئناس بمؤشر سياسي يساعد على قراءة واقعية المشهد الإنتخابي. لذلك نحن نقوم بنقد أدائها المستجد في الساحة السياسية التونسية، ليس لتحييد عملها وإقصائها من متابعة المشهد السياسي ولكن لكي تقوم بدورها دون نقائص ودون إنحرافات لكي تتسم نتائجها النهائية المنشورة للإستبيانات بالحيادية والحرفية فدون هذه الصفات يسهل توظيفها من قبل بعض الأطراف السياسية وهو ما يشكل تهديدا للديمقراطية وتلاعبا بعقول الناخبين.
التأطير القانوني ضرورة ملحّة
قطاع سبر الأراء أصبح سوق خدمات مهم جدا بعد سنة 2011 وليس فقط بالنسبة لعالم السياسة بل أيضا في قطاع الإعلام حيث تتأثر نسبة الإشهارات التي تتحصل عليها المؤسسات الإعلامية بصفة كبيرة حسب نسب المشاهدة التي تحصلت عليها من قبل مؤسسات سبر الأراء.
لذلك من الضروري جدا تنظيم هذا القطاع خاصة من حيث الشفافية وهذا يكون عن طريق قانون واضح ينظم ليس فقط مبادئ والطرق العلمية لعملية سبر الأراء بل أيضا يضبط قواعد الشفافية والحيادية من حيث تمويل هذه المراكز وتجنيبها تأثير لوبيات المصالح الإعلامية و الحزبية.
للوصول لهذا الهدف إقترحت عديد مراكز سبر الأراء و الغرفة النقابية للقطاع إرساء ميثاق شرف للمهنة لكن يجب القول أن المبادرة في ظاهرها هدف نبيل ولكن واقعيا ميثاق الشرف ليس ملزما كما أنه لا يرقى لمرتبة قانونية رادعة بل هو مجرد نظام داخلي يسهل التلاعب به.
لهذا لزاما على الدولة التي تعتبر المسؤولة الأولى عن النظام العام وضبطه وحماية المعطيات الشخصية أن تكون المبادرة من طرفها بقانون منظم يحتوي على المبادئ العامة للقطاع والعقوبات الرادعة في صورة الإنحراف على هذه المبادئ العامة مع ترجمة الآليات العلمية لعملية سبر الأراء طبقا لضوابط علم الإحصاء بكراس شروط تكون مرفوقة بهذا القانون فيكون العمل في هذا القطاع في نفس الوقت حرا في الممارسة ولكن كذلك عنده ضوابط وردع للمخالفين والمتلاعبين بعمليات سبر الأراء.
شارك رأيك