غالية بن علي أو “ابنة الريح” كما لقّبت نفسها يوما في أحد حواراتها لا تستقر على نمط شعري غنائي واحد وإنما تترك ريحها/أهواءها تحملها إلى مكان لم يبلغه غيرها. وقد طوحت بجمهور مسرح قرطاج ليلة أمس حيث أرادت فظل يتبعها صاغرا مسحورا بجمال صوتها و أناقة رقصها وكلماتها البديعة.
في تمام العاشرة من مساء الخميس 15 أوت 2019 أقفلت الفنانة غالية بنعلي حلقتها، جمهور لزم أماكنه على الكراسي والمدارج، وتسعة عازفين: علي شاكر من العراق وخالد كوة من المغرب وناصر سلامة من فلسطين وابراهيم عبد الباري وأيمن عصفور من مصر وفانسون من بلجيكا ومحمد وبشير الغربي ونعيم بن عبد الله وبلحسن صولة من تونس توزعوا على الركح كل أمام آلة موسيقية تشبهه ويشبهها… وعندما اكتملت “حلقة الوصل” أطلّت غالية بلباس الغجر، فستان ذهبي موشّى بزهرات ملونة، شعر متمرّد يغازل نسمات ليلة صيف قرطاجنية ساحرة، حافية القدمين…
حالة بين الوجد والمناجات و التجلّي الروحي
حرّة ومنطلقة، مسكونة بالتيه ومعجونة بالدلال تغنّي غالية بنعلي وترقص “يا مسافر وحدك” لا أحد من الجمهور كان قادرا على مجاراتها أو مصاحبتها في الغناء لا لأنه يرفض ذلك وإنما لأنها عندما تغني للفنانين الكبار لا تسعى لتقليدهم بل تخلق لها إيقاعا مختلفا ينسجم فيه صوتها مع تعبيرات جسدية متناسقة ومدروسة وإن بدت عفوية….
“حضرة وصل” هو عنوان العرض المبرمج مساء الخميس ضمن فعاليات الدورة الخامسة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي، الوصل عكس التفكك، وفي اللغة وصل الشيء بالشيء ضمّه، وحلقة الوصل هي واسطة الإتصال، والوصلة هي كل ما يصل الشيء بالشيء… وغالية كانت حلقة الوصل بين عازفين مختلفي الجنسيات وكانت حلقة الوصل بينهم وبين الجمهور وكانت هي الوصلة بين هذا الجمهور وعوالم الوجد التي أخذته إليها عبر شعر التصوف: “قلبي يحدثني بأنك مُتلفي/روحي فداك عرفت أم لم تعرف” لابن الفارض سلطان العاشقين وأحد أشهر شعراء التصوف ومنه إلى “في دين الحب، المحبة طريقة والحبيب طريق والجمال سنة والصدق شريعة والشوق إيمان، وإن تعددت الطرق/ الطرائق/ الطريقة/فإني واحد…” تدخل خلالها في حالة من التجلّي وهي تكرر “الطرق والطرق والطرق…” كأنها في حلقة دراويش تنشد على طريقتهم وترقص رقصتهم الدائرية “المولوية” ــ نسبة إلى مولانا جلال الدين الرومي ــ ثم “أدين بدين الحب” لمحي الدين ابن عربي و” تجلّى الحب” كلماتها وألحانها جاءت على إيقاع شرقي يدوزن الحرف بالإيقاع: “فلا ثملت ولا صحوت ولا نجوت…” وتقف تلك البُحّة الجميلة التي تميّز صوتها على حافة المقام تعجن القصائد لتغوص أكثر في حالة الوجد وهي تتحرك راقصة بالكاد تلامس أرضية المسرح…
“إبنة الريح” تترك ريحها/أهواءها تحملها إلى مكان لم يبلغه غيرها
غالية بن علي أو “ابنة الريح” كما لقّبت نفسها يوما في أحد حواراتها لا تستقر على نمط شعري غنائي واحد وإنما تترك ريحها/أهواءها تحملها إلى مكان لم يبلغه غيرها ففي قمّة مناجاة الحبيب وفي لحظة غير متوقعة تفكّك حلقة الوصل التي صنعتها بتلك الهالة الروحانية وتأخذ الجمهور إلى نشوة أخرى عبر مقاطع من أغاني سيدة الغناء العربي “ألف ليلة وليلة” و”أنت عمري” ومنها إلى شكل غنائي آخر “يا ورد أنا في انتظارك” و”راحوا الحبايب بقالهم زمان”… ثم تعيده إلى نفس الحلقة ب”هيّمتني/تيمتني” للشيخ أمين الجندي قبل أن يلتحق عازف الغيتار ـ ضيفها ـ السينغالي مليك ديوب بالمجموعة و”ماذا عليّ إن أشارت فودعت” ومقاطع من رباعيات صلاح جاهين وعجبه من أحوال الناس انتقلت منها برمشة عين إلى “أنا في انتظارك” بسلاسة مدهشة دون إحداث نشاز أو خلل في القفلة، بل هي لا تقفل لتفتح بابا آخر من أبواب الفن الكثيرة فكلّها تتنافذ وتتقاطع توجهها “ابنة الريح” كيفما شاءت ومع كل نقلة تترك أحد عازفي الفرقة يتجلّى في صولو رائع، حتى البلجيكي فانسون الذي تماهى مع التشيلو على إيقاع نصّ موغل في العشق العربي ومتاهاته وحالاته يتابع حركات الأحاسيس “حسا يعدّل حسا وحرفا ينزّل معنى”…
كان للموسيقى مساحة هامة في عرض غالية بنعلي مساء الخميس على ركح المسرح الروماني بقرطاج فعلاوة على أهميتها من حيث القيمة الفنية والحرفية التي برهن عليها العازفون تبرز الأهميّة في هذا الخليط بين الجنسيات المتجانسة فنيّا والتي عزفت كأنها كيان واحد غير قابل للتفكيك… جمعهم مهرجان قرطاج وركحه العجيب الذي يلد اللحظة ولا يكررها حتى وإن عاد إليه نفس الفنان.
ساعتان ونصف دارت خلالهما غالية بنعلي في حضرة وصلها كدوران المتصوف في حلقة الدراويش كاشفة عن ولع كبير بالشعر العربي ونهم أكبر للبحث عن أجوده، تنتقي منه ما يمكنها أن تحوّله إلى مشهديّة ركحية تتكامل عناصرها مع صوتها العميق وحضورها المبهر وانفلاتها في الفضاء وهي ترقص تعاند نسمة صيف خفيفة وانكسار الضوء على وجهها… تتيه دلالا وهي تودّع الجمهور الذي تابعها إلى الدقيقة الأخيرة بصمت وتركيز في أغنية “لاموني اللي غاروا مني”.
شارك رأيك