لم يكن لطفي العبدلي في حاجة إلى عمل مسرحي يحمل عنوانا واضحا وأفكارا واضحة… هو فقط العبدلي الذي يفتح نار نقده على كل الممنوعات والطابوهات في المجتمع التونسي وهو نفس العبدلي الذي ساهده جمهور المسرح الأثري بقرطاج ليلة 16 أوت 2019.
اسم لطفي العبدلي صار كاف ليقترح عرضا يستقطب الآلاف ويملأ أكبر المسارح، ويقضي الساعات في انتظاره، لذلك انتظم عرضه ليلة الجمعة أمام شبابيك مغلقة بعد نفاد التذاكر بالكامل قبل ساعات من العرض.
جمهور متنوع من الأطفال والشباب والكهول وكبار السن. وقف في صفوف طويلة منذ الخامسة مساء ولم يمل من الإنتظار. أما لطفي العبدلي الذي كان مدججا بفريق كبير بزي موحد يتقدمهم منتجه محمد بوذينة فقد جاء إلى المسرح منذ السادسة والنصف مساء مصحوبا بابنه يوسف. توجه مباشرة إلى ركح المسرح الروماني بقرطاج ليعاين التحضيرات والتجهيزات الصوتية. اطمأن إلى أن كل شيء على ما يرام، دخل إلى الكواليس وجلس بهدوء في انتظار لقائه بالجمهور.
لماذا يسمح الجمهور للطفي بما يرفضه عند الآخرين ؟
لطفي العبدلي خلف الكواليس غير الذي نراه على الركح. يرتدي ملابس صيفية خفيفة، هادئ. أما على الركح فهو كالبحر عميقا وهائجا يغريك بالسباحة لكنك لا تدري إلى أي مناطق سيأخذك. مثير ومخيف في الوقت نفسه لمن يخشى المغامرة.
قبل انطلاق السهرة عرضت شاشة مهرجان قرطاج الدولي فيديو يؤرخ لبعض اللحظات في حياة المنتج الراحل نجيب عياد مدير أيام قرطاج السينمائية الذي توفي يوم العرض بشكل مفاجئ مخلفا حزنا كبيرا في قلب الأسرة الثقافية والسينمائية. كما دعا المهرجان الجمهور للوقوف دقيقة صمت ترحما على روحه.
كان لطفي العبدلي ليلتها في كامل لياقته الفنية، حضوره متوهج، وإطلالته على الركح مبهرة من حيث السينغرافيا والموسيقى المصاحبة وخطوات العبدلي التي تدق الأرض بثبات وثقة في النفس وهو يواجه الآلاف من محبيه من مختلف الأعمار، بعضهم لا يخفي تحرجه من جرأة هذا الفنان، ولكنه يحبه ولا يستطيع منع نفسه من الضحك والإستمتاع بما يقول على الركح.
لماذا يسمح الجمهور للطفي بما يرفضه عند الآخرين؟ “الكلام القبيح” أشبه بالتهمة التي تلاحقه ومع ذلك فموقف الجمهور الحقيقي يترجمه حضوره الكبير في جميع عروضه صيفا وشتاء. هذا الأمر فسره لطفي العبدلي خلال الندوة الصحفية التي انتظمت مباشرة بعد العرض في كواليس المسرح الروماني بقرطاج قائلا إنه يعمل كثيرا على عرضه، وأن البناء متى كان متينا لا شيء فيه يبدو مسقطا. وشبه لطفي نفسه بالمرآة التي يرى فيها الآخر نفسه، فإما أن يتقبل رؤية نفسه كما هي أو أن يحطم المرآة.
فنان يتخطى مناطق الحياء بكل شجاعة
كعادته لم يغفل لطفي العبدلي عن تأريخ ليلته الإستثنائية بفيديو “سيلفي” صوره مع الجمهور وهو يصرخ بأعلى صوته “قرطاج” ثم قضى ساعتين كاملتين لم يتعب خلالهما الجمهور من التفاعل ضحكا دون انقطاع وتصفيقا كما لم يبد على العبدلي علامات الإرهاق بل كان حاضر البديهة، يتجاوب مع الجمهور ومع تعليقاته، يقدم قراءته الساخرة للواقع بكل مفرداته الإجتماعية والسياسية، جريئا في التوغل في المناطق المحرمة – أخلاقيا واجتماعيا – وهو فنان يتخطى مناطق الحياء بكل شجاعة.
على مدى ساعتين كاملتين من الضحك دون انقطاع، لم يخذل لطفي العبدلي جمهوره بنقده لحياة التونسي اليومية، لسلوكه في الحياة الخاصة والعامة… تهكم على الرجال والنساء ووجه نقدا لاذعا لأهل السياسة في تونس، وانهال بسياط تهكمه على الجميع دون استثناء ويبدو أن أهل السياسة صاروا يتهربون من حضور عروض لطفي العبدلي خوفا من سخريته اللاذعة التي أحرجت الكثير منهم في وقت سابق، ولم نر في المسرح سوى روني الطرابلسي وزير السياحة الذي أشاد لطفي بمجهوده قائلا : “هو الوزير الوحيد اللي ما أداش القسم. ما حلفش. وهو أكثر وزير خدام على روحو”.
لا يعترف لطفي العبدلي بأي سقف في نقده، بل يذهب إلى الحد الأقصى، والحد الأقصى يبدو أحيانا صادما ومحرجا وبالنسبة إلى الكثيرين، لكن حتى من يشعر بالحرج لا يمنع نفسه من إبداء إعجابه بما يقول ربما لأنه لا يملك جرأته…
ولم ينس العبدلي عددا من زملائه وأصدقائه الذين حضروا عرضه: محمد الجبالي، سمير الوافي، بوبكر بن عكاشة، محمد علي بن جمعة، عادل بوهلال، أحمد الأندلسي، ووجيهة الجندوبي التي استقبلها على الركح تقديرا لها ولنجاحها منذ أيام في المسرح نفسه.
كانت سهرة استثنائية في الدورة الخامسة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي أكد فيها لطفي العبدلي أنه نجم الكوميديا في تونس، حاضر البديهة، لم يخل عرضه من الارتجال ولكنه في الوقت نفسه كان مستعدا كما يجب لواحدة من لحظاته التاريخية.
وخلال ندوته الصحفية قال لطفي العبدلي إنه ابن المسرح الذي تعلم أصوله مع كبار المسرحيين في تونس لكن ما يقدمه ليس مسرحا. وقال إن العرض في المسارح الكبرى لحظة حارب من أجلها رموز المسرح في تونس وعلينا الإعتراف بجميلهم.
بلاغ.
شارك رأيك