من يدّعي أن الإسلام يمنع تشخيص الرسول الكريم لا يأخذ بهذا الدين، بل باليهودية والمسيحية من خلال الإسرائيليات التي شوّهته، إذ تعدّد تشخيص صاحب الرسالة في الإسلام منذ بداياته. إذ ليس الكفر في تشخيص الرسول، بل في الإمتناع عن تشخيصه.
بقلم فرحات عثمان
إن دين التوحيد الخالص بمنعه تشخيص الذات الإلهية، ليسمح، منطقيا وبصفة آلية، بتشخيص كل خلق الله، بما في ذلك رسول الإسلام؛ ذلك أن معاملة إحدى كائنات الله نفس المعاملة الخاصة بخالقه هي التي تعد أعظم الكفر، الشرك بالله. لذا، ليس الكفر في تشخيص الرسول، بل في الإمتناع عن تشخيصه، خاصة وقد توفرت لدينا كل التفاصيل الموثوق من صحّتها حتى تكون صورته لصيقة بحقيقة الواقع.
هذا التحليل المنطقي القائم على أسس عقلانية هو المفروض اعتماده في دين علمي التعاليم، عقلي النزعة، خلافا للموقف الذي ساد عند المسلمين انطلاقا من الفكرة الخاطئة بمنع الصورة في دينهم، وهي، في الحقيقة، من العادات التي رسبت من الإسرائيليات.
نعم، لم تكن الصورة مستحبّة في سنوات الإسلام الأولى لقرب العهد بالوثنية؛ إلا أن هذا انتفى مع اندثار عادة الأوثان وترسّخ الإيمان التوحيدي في القلوب. ثم إن المسلمين لم يمتنعوا عن تشخيص رسولهم في أدق صورة، فكان ذلك كتابة لانعدام التقنيات التي توفرت لاحقا. فما الذي يمنع اعتماد التشخيص الكتابي لخلق نفس الصورة حسب التقنيات الحديثة المتوفرة اليوم؟
إن من يقول باستحالة ذلك وجب عليه القول أيضا بمنع كل ما لدينا من تقنيات حديثة، ومنها بالأخص استعمال مكبرات الصوت في المساجد، هذه البدعة التي أصبحت قاعدة لا للآذان فقط، بل للخطب وحتى لقراءة القرآن. علما وأن ترتيل الفرقان ما كان يوما مسموحا به على أسماع كل من هبّ ودبّ بالشوراع والأنهج والأزقة، إنما فقط لمن يحرص على الإصغاء إليه لتدبّر معانيه، ما يفرض حالة معيّنة وهيئة خاصة غير ما عليه المارة أمام مسجد أو محل تجاري يبث القرآن كما يبث غيره الأغاني!
صفة الرسول عند السلف في دقة الصورة:
لئن أتى، عند السلف، التشخيص كتابة في وصف صفة الرسول، فإنه في دقته لأبلغ من الصورة الفوتوغرافية. ولا شك أن كتبة ذلك الزمن ووصّاف النبي، ومنهم أقرب وأهم صحابته، كانوا لا يتردّدون في تصويره فوتوغرافيا لو عرف عهدهم آلة التصوير. فما هو شكل الرسول حسب أوثق الروايات المعتمدة فقهيا؟
كان وجهه مستوياً، لم يكن مُستديراً بشكلٍ كامل؛ وجبينه واسعاً، مستوياً، ممتدّاً بالطّول والعرض، وحاجباه قويّين، مقوّسين ومتّصلين اتّصالاً خفيفاً يُكاد لا يُرى. وهو أكحل العينين، عظيمهما، رموشه طويلة وكثيفة، أنفه طويل ومستقيم مع ارتفاعٍ بسيطٍ في وسطه ودقّةٍ في أرنبته؛ فمه واسع، مفلج الثنايا، فأسنانه محدّدةً ومتفرّقةً بعض الشّيء، حيث كان إذا تكلّم بان نورٍ من فراغات أسنانه. وهو كثّ اللحية، وافر الشارب وما انحدر من اللحية على الصدر.
أما صفات جسده، فهو متوسّط القامة، ليس طَويلاً ولا قصيراً، ولو أنه أقرب للطّول؛ عريض الكتفين، فخم الجسم، متوسّط البياض، أي أنه لم يكن أسمراً ولا أمهقاً. كان رأسه ضخماً، وهامته عظيمة، وشعره شديد السّواد، جعد ليس بالقطط، طوله يَصل إلى منتصف أذنيه في بعض الأحيان أو إلى شحمة أذنيه أحيانٍا أخرى؛ ولم يشب شعره. كانت ذراعاه طويلتين بشعرٍ كثيف، وكفّه منبسطاً؛ وهو غليظ أصابع القدمين واليدين؛ حيث كانت أصابعه طويلةً من دون عقد، وكانت مفاصل أطرافه ضخمة.
وتضيف الروايات أيضا أنه أبيض الإبطين، واسع المنكبين، كثير الشّعر، عريض الصّدر، أعلاه كثير الشّعر. وله، بين كتفيه، ما يُسمّى بخاتم النبوّة على هيئة غدّةٍ حمراء عليها شعيراتٍ على شكلِ هلال.
تحريم الصورة ليس من الإسلام:
قلنا أن الإسلام، كدين حقوق وحريات، لا تأليه فيه إلا لخالق كل البشر، بما فيهم رسله؛ لذا، عدا الذات الإلهية، لا تحريم إسلاميا لتجسيد البشر، بما فيهم الرسول الأكرم بما أنه بشر. أما المعتقد المتزمت الطاغي إلى اليوم فقد جعل المسلمين يقلدون النصارى في تأليه محمد، فإذا هو بمثابة الإله، يٌمنع تجسيده كأنه لم يخلق بشرا من لحم ودم، له هيئة وصفات، بل أفضلها. لذا، بما أن من مهام النبي إتمام مكارم الأخلاق والتسنّي به، فإنه من المنطقي معرفة صفته بدقة لمحاكاتها مضمونا وشكلا.
هذا ما فهمه السلف حق الفهم، إذ تاريخ الفن الإسلامي يحفل بكثيرٍ من نماذج متنوعة من رسومات رمزت إلى الرسول والصحابة والأنبياء والملائكة أو شخّصتهم بصفة بيّنة. فللتصوير الإسلامي الديني تاريخ عريق؛ وما كان ذلك البتّة من باب الطعن في الدين أو الاستهزاء بنبيّه، بل خدمة واحتراما للإثنين بوسائل العصر، أي أفضل الوسائل. لقد عرفنا ذلك في القرن الثالث عشر الميلادي، بالغا أوجه في القرن الموالي؛ وكان بالأخص بأراضي الإسلام المغولي والعثماني والفارسي.
هذا، وبدأت الرسومات الأولى لشخص الرسول بالرمز إليه، مثلا بوضع هالة نورانية حول رأسه أو لثام على وجهه تمييزا له عمن حوله؛ ثم ما لبثت أن تطورت إلى حد إظهار الملامح بوضوح تام. لذا، خلافا لما يعتقده الجمهور عندنا اليوم، فصور الرسول دون تعمية رمزية عديدة عبر التاريخ الإسلامي، نعرض منها، مع هذا الحديث، منمنمة يعود تاريخها إلى بداية القرن الرابع عشر، تمثل محمدا مع روح القدس جبريل، وردت في كتاب «جامع التواريخ» لرشيد الدين فضل الله الهمذاني، المؤرخ والطبيب الفارسي المتوفّى سنة 1318؛ وتوجد نسخة من الكتاب بمكتبة جامعة مدينة أدنبره. هذه المنمنمة، وهي أقدم الرسوم المعروفة للنبيّ محمّد، ظهرت أيضا في مخطوطة كتاب «الآثار الباقية عن القرون الخالية» للبيروني المتوفّى سنة 440 هجرية. وفي «جامع التواريخ» عدة صور أخرى للرسول ولأمّه آمنة، وجدّه عبدالمطلب وزوجاته والبعض من صحّابته، إضافة لعديد الرسومات للأنبياء والملائكة. ونحن نجد الرسول في هذه الصور واضح القسمات الوقورة، فارع القامة، نحيل البدن.
هذا بؤكد كما قلناه تهافت مقولة السلف في منع تصوير الرسول وخطأ التصرفات الرسمية الحالية في منع الصورة والتصوير للرسول. نعرض لهذا بأكثر تفصيل في حديث الجمعة المقبلة مع نماذج مما أدّى إليه هذا الخور الذي، باسم الدفاع عن رسول الإسلام، أساء إليه وإلى دينه، جاعلا من تنويريته الأصلية الأصيلة ظلامية مقرفة.
ديبلوماسي سابق وكاتب.
شارك رأيك