أكدت العديد من المنابر الإعلامية، وخاصة التلفزية والإذاعية، خلال تناولها لحادثة إيقاف نبيل القروي وإيداعه السجن بأمر قضائي وما أبدته من تجاوزات ومزايدات وشعبويات وتصفية حسابات شخصية وٱستهتار بأبسط قواعد الممارسة الإعلامية وأدبيات الحوار، مدى عمق وٱتساع الهوة التي تفصلنا عن قيم ومبادئ الحرية الديمقراطية، اللتين نتشدق بهما وندعي الإلتزام بتطبيقهما.
بقلم مصطفى عطية *
لقد سقط الكثير من الإعلاميين أو من ينسبون، ظلما، إلى هذا القطاع المنتهك، في خندق الإفلاس المريع، لتطفو الأزمة الإعلامية في أقبح وجوهها وتكون أم الأزمات التي تعاني منها البلاد.
محاور شيطانية
بدا جليا وواضحا أن البلاد منقسمة إلى عدة محاور “شيطانية”، محور أصحاب المصالح الآنية الذين ركبوا سروج العمل السياسي لحماية منافعهم وتوسيع دائرة نفوذهم فتحالفوا “حمائيا” على قاعدة “إحمني أحميك” ! ومحور الأغبياء الذين أوهموا أنفسهم بأنه يمكن للديمقراطية أن تينع وسط مستنقعات الإنتهازية والإستغلال والمحسوبية والعمالة والخيانة وتنفيذ أجندات خارجية لم تعد خافية على أحد، ومحور الرافضين لكل شيء أي أولئك الذين مثلهم مثل الصخرة التي وقعت على فم النهر فلا هي تشرب ولاهي تترك الماء يخلص للزرع وقد دأبوا على الرفض من أجل الرفض فقط، وذلك للحفاظ على مواقعهم وآليات الإبتزاز التي يتقنون إستعمالها.
هذه المحاور، رغم إختلاف برامجها وتباين وسائلها، تلتقي عند هدف واحد، هو حماية المصالح الشخصية على حساب مصالح الوطن، مما أغرق البلاد في أزمات خانقة ومدمرة.
لقد إتضحت الصورة لكل التونسيين حتى الذين تمسكوا بحبل الأمل والتفاؤل، وتأكد أن مصيبة تونس في هؤلاء الإعلاميين والسياسيين، وما هم بإعلاميين وبسياسيين.
بدا بعض العقلاء وأصحاب الضمائر الوطنية الحية وهم يتحدثون في ما توفر لهم من فضاءات ومنابر وكأنهم يحرثون في البحر أو ينفخون في قرب مقطوعة، أجل لقد أهدرنا الوقت وأضعنا الفرص وتركنا الحبل على الغارب للعابثين والإرهابيين والخونة والعملاء ليعيثوا في هذه الأرض فسادا!
خطب الجوفاء وشعارات مهترئة ومسرحيات تهريجية
لقد أضعنا مرجعياتنا الوطنية وٱستبدلناها بأخرى أجنبية، كل حسب منافعه ومصالحه الشخصية والحزبية، ماذا بقي من السيادة الوطنية ومن استقلالية القرار ومن الوحدة الوطنية ومن استقلالية الإعلام ومن هيبة الدولة ومؤسساتها بعد أن تعرض الأمن والقضاء إلى التشكيك؟
لا شيء على الإطلاق إلا الخطب الجوفاء والشعارات المهترئة. كان الشعب ينتظر حلولا للأزمات التي تمر بها البلاد، وٱقتراحات للخروج من النفق، ومبادرات لفض المشاكل العالقة ولكنه إصطدم بٱرتفاع منسوب المزايدات وٱشتداد إيقاع تبادل الإتهامات.
لقد ركب أغلبهم على سروج دستور أعرج وضعه أعضاء مجلس تأسيسي أكثر أعضائه من الأميين السياسيين ونصفهم من الأميين تحديدا وٱستغلوا نظاما برلمانيا مهزوزا فرضته قوى خارجية هدفها تقسيم المجتمع وإضرام لهيب الصراعات فيه، وهيئة سمعية-بصرية لا تسمع ولا تبصر، فكانت تلك “المسرحيات التهريجية ” التي أبكت الكثير من التونسيين ألما وكمدا وأسفا على ما آلت إليه بلادهم بعد ما يقرب من تسع سنوات من التداعي الشامل.
إكتشف التونسيون، مرة أخرى، أن مجلس نواب الشعب الحالي لا يختلف كثيرا عن المجلس الوطني التأسيسي : نفس الإفلاس السياسي واللغة الهابطة والفقر المعرفي والمزايدات الرخيصة والشعارات الشعبوية الهابطة والتوثب الإنتهازي الوضيع.
إنهم نواب لم ينتخبهم الشعب الذي فرضوا عليه نظام القائمات وسلبوا صوته وأجبروه على إختيار “قطاطس في شكاير” !!! كذلك الشأن بالنسبة لبعض الوزراء الذين أكدوا أنهم أصغر بكثير من المسؤوليات التي كلفوا بها ولا يفقهون في السياسة شيئا وليست لهم النباهة اللازمة لتجنب السقوط في الفخاخ التي تنصب لهم وهذه الأفواج من “إعلاميين” لا يتقنون إلا التهريج والإصطفاف الوضيع وراء هذا أو ذاك مقابل منافع مهينة، وتلك الهيئة السمعية-البصرية المؤقتة التي أصبحت مصدر تندر أهل القطاع.
لقد تجلى بوضوح تام أن كل شيء : الدستور والنظام البرلماني والطبقة السياسية والقطاع الإعلامي والهيئات التي توصف، خداعا، بالمستقلة والسياسات المتبعة والتحالفات المصلحية تسير في الإتجاه المعاكس لرغبات وطموحات وحقوق الشعب الذي صبر طويلا وأوهم نفسه بنعيم الديقراطية وفضائلها الإقتصادية والإجتماعية، قبل أن تصدمه الحقائق تدريجيا فتقضي على ما تبقى لديه من أمل وهي أخطر الوضعيات الممكنة وقد أثبتت وقائع التاريخ في كل الأزمنة والأمكنة أن ردة فعل الشعب المحبط وفاقد الأمل لا يمكن التكهن بنتائجها الكارثية.
* صحفي وكاتب.
شارك رأيك