لقد كشف النائب المنجى الرحوي كثيرا من علل اليسار وخطاياه وسقطاته السياسية بل لعل هذه الحرب المدمرة التي فتحها الرجل ستؤدي إلى فضح كثير من أخطاء اليسار الإستراتيجية في علاقة بمساهمته المباشرة و غير المباشرة في بقاء و استقواء حركة النهضة ومنحها متسعا من الوقت لمزيد التغلغل داخل مؤسسات الدولة.
بقلم أحمد الحباسي *
هل سقط نظام الرئيس زين العابدين بن على؟ أنا لا أظن، هناك منكم من يؤكد أنه سقط فعلا ؟ إذن لو قادتكم الصدفة أو الإختيار لسماع خطاب أو حوار أو تصريح أو نقاش لمن يسمون أنفسهم عبثا بالمعارضة اليسارية فإنكم بالتأكيد ستجدون أنفسكم أمام نفس الخطاب الذي رددته تلك المعارضة حرفيا زمن الرئيس بن على، ستسمعون طبعا نفس القدح والنقد والتصغير والذم، بل نفس العبارات ونفس البدايات الخطابية ونفس النهايات المكررة المجترة التي ترددها قياداتها وتعيدها بنفس الإلحاح البليد الذي كانت تعتمده قناة “تونس7” لإعادة فيلم “رابعة العدوية” مع كل احتفال بالمولد النبوي الشريف.
لم يتغير خطاب هذه المعارضة عما كان عليه قبل الثورة و لم يتم إخضاع قياداتها إلى دروس رسكلة لتتعلم فن الخطاب السياسي بل الظاهر أن هؤلاء الذين تمسكوا بتأبيد وجودهم على رأس أحزاب اليسار لم يقتنعوا أو يصدقوا أخبار قناة الجزيرة التي كانت أول المبشرين بهروب الرئيس بن على.
يسار ما ولد إلا ليعترض و لا شيء غير الإعتراض
أحزاب اليسار عندنا توقفت عقارب تفاعلها ليلة 13 جانفى 2011 و لا تزال تراوح في نفس المكان، لم يتغير شيء، سوى مزيد الغوغاء و الضجيج خاصة بعد اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، بل مزيد من قائمة النعوت ومزيد الإصرار العبثي على أنها ما ولدت إلا لتعترض و لا شيء غير الإعتراض، أما السعي إلى ممارسة الحكم كما دعاهم إليه النائب والمرشح الرئاسي المنجى الرحوى فهذا ليس مطلوبا و متروك للوقت المناسب.
نحن لا نريد أو نبحث على الإنتقاص من أمر هذه المعارضة و لكن هذا هو حالها كما تؤكده كل القراءات و التحاليل الإعلامية و الفكرية التي تناولت تفريك وتحليل الخطاب اليساري بعد الثورة.
وعلى كل حال فإن ما حصل لهذه الكتلة اليسارية من تصدع وتفكك و انقسام منذ أشهر قليلة يؤكد أن دوام الحال من المحال و أنه لا يجوز قذف بيوت الآخرين بالحجر ما دام بيت اليسار من زجاج.
ما حصل داخل الجبهة لم يكن حرب برامج بل حرب زعامات وما حصل من تفكك كان نتيجة تمسك البعض بالرئاسة مدى الحياة مع أن هذا الأمر هو اللعنة التي قضت على أحلام كثير من الساسة العرب.
لعل هناك من انتقد محتوى خطاب تأبين الشهيد شكري بلعيد ورأوا في تلك العبارة التي أطلقها لسان “الرفيق” حمة الهمامى … “نم يا صديقي… نم” تخليا وليس وعدا بمواصلة مسيرة كفاح ونضال الشهيد، ولعل الأيام قد كشفت أن دم الشهيد بقدر ما عبد الطريق لكل قيادات اليسار للصعود إلى أعلى المراتب الإنتخابية و الحصول على نسبة محترمة من الكراسي الوثيرة في مجلس نواب الشعب فقد جعل هذه القيادات تتخلى عن عديد من الثوابت لعل أهمها رفض الدخول إلى حكومة السيد الحبيب الصيد بحيث أجبرت رئيس الدولة المرحوم الباجى قائد السبسى إلى الدخول في تحالف مهين مع حركة النهضة التي كان الجميع في انتظار خضوع كثير من قياداتها للمحاسبة القضائية.
الدور السلبي الذي لعبته الجبهة الشعبية في إضعاف العائلة الديمقراطية
لقد فرض هذا التحالف على حكومة الحبيب الصيد و يوسف الشاهد لاحقا كثيرا من الحذر عند التعامل مع كل الملفات الحارقة التي تخص حركة النهضة وأهمها ملف معرفة حقيقة الإغتيالات التي طالت الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمى.
مع اختلافنا في تقييم حصيلة حكم السيد يوسف الشاهد، خاصة و أن نسبة الفشل قد فاقت بكثير نسبة النجاح نتيجة اعتماد الرجل على وزراء خارجين عن الموضوع تماما فإنه لا بد من الإشارة أن الرجل قد تعذر عليه فتح ملف الإغتيالات لمعرفته الدقيقة بما سينتج عن فتح الملف وكشف الحقيقة في هذه الفترة من ارتدادات و إرهاصات مرعبة، ولعل إصرار حركة النهضة على بقائه في الحكم رغم اعتراض الموقعين على وثيقة قرطاج يؤكد أنها قد أرادت حماية “مؤخرتها” مستغلة ضعف وتآكل حزامه السياسي خاصة بعد أن فتحت قيادات حزب النداء النار عليه.
لكن و بالمقابل فإن الملاحظين يهملون في غمرة تركيزهم الإنتهازي على ضرب رئيس الحكومة الدور السلبي الذي لعبته الجبهة الشعبية في إضعاف العائلة الديمقراطية وبالذات إضعاف الحزام السياسي و البرلماني لحكومة النداء الأولى والثانية، بل من المضحك أن تفعل الجبهة ما فعلت ثم تسارع نفاقا إلى كيل الإتهامات للحكومة بكونها تخلت عن فتح ملف الاغتيالات.
صحيح أن معرفة الحقيقة مطلب واستحقاق شعبيين و وطنيين لكن هل يمكن لحكومة تواجه صعوبات في كل الميادين أن تفتح ملفا حارقا تعلم أكثر من سواها أنه سيؤدى إلى زلزال لا تعرفه خفاياه و نتائجه؟
لقد أثبت صراع الإخوة الأعداء داخل الجبهة الشعبية وداخل أحزاب اليسار نفسها أن حساب الحقل لم يكن مواتيا لحساب البيدر و أن “اللي يحسب وحدو يفضللو” وأن من حفر جبا للحكومة قد وقع في شر أعماله وأن السحر قد انقلب في نهاية الأمر على الساحر.
لقد كشف النائب المنجى الرحوي كثيرا من علل اليسار وخطاياه وسقطاته السياسية بل لعل هذه الحرب المدمرة التي فتحها الرجل ستؤدي إلى فضح كثير من أخطاء اليسار الإستراتيجية في علاقة بمساهمته المباشرة و غير المباشرة في بقاء و استقواء حركة النهضة ومنحها متسعا من الوقت لمزيد التغلغل داخل مؤسسات الدولة بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى على الخضوع للمحاكمة والمحاسبة القضائية و الشعبية، ليبقى السؤال: أي نهاية كنا سنصل إليها لو انجرفنا وراء أهواء أصحاب الخطب الإنشائية والشعارات الرنانة و هل يمكن اليوم إعطاء الثقة للمجهول؟
* محلل سياسي.
شارك رأيك