بعد مفاجأة التونسيين بجنسيته الفرنسية وهو يترشح للإنتخابات الرئاسية، رئيس الحكومة يوسف الشاهد يفاجئنا بأنه بدل أن يستقيل، كما هو مطلوب منه للتفرغ لحملته الإنتخابية يختار التفويض لرديفه في حزبه كمال مرجان بصفته عضواً في حكومته أن يتولى مهامه بصورة وقتية، فأردف التعذر الدستوري الذي يخول له التفويض بالتفرغ الإنتخابي. فلو كان التفرغ عذراً لهذا الأمر لنص عليه الدستور ولما أغفله المشرع لأهميته.
بقلم الدكتور منجي الكعبي *
أفلا يُري بهذه الصلة الحزبية للمفوض له أنه لم يقطع الصلة بمهامه المتعلل بها للتفويض؟ لأن العذر المتعلل به سياسي حزبي بامتياز، وليس من نوع المرض أو التواجد بالخارج المسبّبين للغياب الطويل، الذي لا يعلم تاريخ لنهايته.
ولذلك جاءت العبارة في الدستور بالوقتي لوصف العذر وليس لوصف التفويض، وما دام العذر غير محدد يبقى التفويض قائماً. والدستور لا يُترك لرئيس الحكومة أن يَفتعل سبباً غير معذور به، إذ قد يتسبب العذر غير المقبول أو المحدد الغرض، في أزمة سياسية.
وفي إعلانه (التفويض بدل الإستقالة) علل إقدامه على هذا القرار بالتفرغ للإنتخابات. وهذه تاريخها محدد بذاتها، بداية ونهاية. فهي إذن العذرُ ومدّته، وكان يكفي أن يحيل إليها دون تحديد تاريخ لها ودون اشتراط أن يرجع في تفويضه متى أراد قبل انقضاء الأجل الذي ضربه. وهذا الأجل في الأمر الحكومي الذي صدر أخيراً في الرائد الرسمي، حدده بيوم 13 سبتمبر أي قبل يومين من الدورة الا,لى للإنتخابات الرئاسية السابقة لأوانها. والحال أنه في بيانه حول التفويض ذكر يوم 16 من الشهر ذاته. ولكنه حتى في صورة عدم فوزه سيكون موقعه مؤثراً لا محالة في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية، ويكون المجال لتمديد التفويض أدعى.
ثم لو كان بقي عندما أكده من أنه لم يجاوب من طالبوه بالإستقالة للتفرغ لحملته، لما وقع في مشكلة التناقض مع نفسه وهو يعلمهم أن “الدستور التونسي اليوم يسمح لرئيس الحكومة أن يترشح للانتخابات وهو في منصبه” ثم يضيف: “ولكن، ولغلق باب التأويلات والإدعاءات حول استعمال إمكانيات الدولة وحرصاً مني على نزاهة وشفافية الإنتخابات أعلن اليوم عملاً بأحكام الفصل 92 من الدستور أنني قررت تفويض صلاحياتي كرئيس للحكومة لوزير الوظيفة العمومية السيد كمال مرجان إلى آخر يوم من الحملة الإنتخابية والذي يقابل ١6 سبتمبر 2019. أفوض إذن للسيد كمال مرجان ممارسة سلطات رئيس الحكومة بصفة وقتية.”
فالتفويض بصفة وقتية غير مطابق لعذر غير موصوف، إذ قد يمتد في صورة الحال بامتداد الإنتخابات، وهذه هو وحزبه معنيين بها إلى نهايتها وإلى صدور نتائجهما جميعاً، لأن العذر في أقل تقدير متعلق بالبعد – كما قال – عن “استعماله إمكانيات الدولة وضمان حياد الإدارة وحرصاً منه على نزاهة وشفافية الإنتخابات.”
ورغم الإضطراب في تاريخ انتهاء العذر بانتهاء التفويض، فقد يتعذر إنتهاء التفويض الذي أُخرج إخراجاً غير دستوري لاعتبارين على الأقل، أولاً عدم النص في الدستور على ضرورة التفويض في مهام رئيس الحكومة في صورة ترشحه أو ترشح حزبه لانتخابات رئاسية أو تشريعية. بل بالعكس، صفته في الحكم وفي البرلمان تزكيه لخوضهما دفاعاً على التجديد له فيهما؛ وثانياً، لم يعلم رئيس الجمهورية بقراره المتخذ في هذا الشأن عملاً بنص الفصل نفسه في الدستور نفسه الذي رجع إليه والذي يقول في فقرته السابقة: “ويعلم رئيس الحكومة رئيس الجمهورية بالقرارات المتخذة في إطار اختصاصاته المذكورة.”
فالأمر الحكومي بالتفويض جاء خال من كل إشارة الى رئيس الجمهورية، وكذلك إعلانه الذي توجه به الى العموم.
فأن يعتبر جنسيته بالأمر الشخصي وغير المهم من ناحية ومن ناحية أخرى يزايد بأنه مضى أبعد من الدستور، فلم يتعهد بالتخلي عنها بعد الفوز بل قبله، فهذا أشبه بالتحدي للدستور ومخالفة القوانين. فمحمد المصمودي بمحرد توزيره قي حكومة القذافي أعلن بورقيبة إسقاط جنسيته عنه فورا. وفي حالته هذه الجديدة بالتفويض بصلاحياته لأحد وزرائه حسب الدستور، وكان المفروض أن يكون التعبير لو أنه غير التعذر أن يقول، كما قال في الفقرة السابقة: “ويمكن لرئيس الحكومة أن يفوض بعض صلاحياته للوزراء” يقول: “ويمكن لرئيس الحكومة أن يفوض سلطاته إلى أحد الوزراء.”
ولكن لأن التعذر هو لأمر طارئ مانع من ممارسة السلطات، بحيث لا يدخل فيه تفرغ لحملة الترشح للرئاسة، لأن هذه الحالة كان ينبغي التنصيص عليها صراحة لو أنها معتبرة بتقدير الشارع، كما قلنا لأنها توجب العودة بانتهاء الحملة. ولا تحتاج إلى تاريخ قد يطول وقد يقصر بحسب ظروف الإنتخابات السابقة لأوانها أو العادية.
فمصلحة الدولة أن لا توجد لها الآن مشكلة أخرى أو باب نزاع جديد على سلطة من السلطات، مادام حياد الإدارة له قوانين تضبطه، وهيئة الإنتخابات تعهدت بالمراقبة ومنع كل استعمال لإمكانيات الدولة لأغراض إنتخابية حيث لا قوانين تجبر وزيراً على الإستقالة أو تفويض صلاحياته قبل الترشح.
فكم دخلنا في أزمات بسبب القراءة المتعسفة للدستور فيما مضى. فبن علي وزير أول بورقيبة انقلب على رئيسه انقلاباً دستورياً، والغنوشي وزير أول الزين انقلب عليه دستورياً كذلك بادعائه الوصاية له بالرئاسة مدة غيابه. وكادت تمر هذه الخدعة التي يعاقب عليها الدستور لا محالة لأنها بمثابة الخيانة العظمي، لولا تحرك المجلس الدستوري وميل الكفة لفائدة رئيس مجلس النواب، الذي ألقى بالدستور ظهرياً واتخذ ما يسمى بالدستور الصغير للتمديد في بقائه بالرئاسة المؤقتة بحجة الخطر المهدد للدولة.
فرئيس الحكومة، ماذا يكون فتح علينا من باب، بهذا التفويض الذي سمح لنفسه بقطع مدته التي حددها بنفسه متى يشاء، وهو على أسابيع من تغيير وجهة الحكم في تونس، بعد هذه الإنتخابات نحو مجلس نيابي جديد وحكومة جديدة ورئيس جديد، والبلاد مفتقدة لمحكمة دستورية تبت في مسائل الخلاف لقطع السبيل على كل تأويلات مغرضة للدستور وتلاعب بالقوانين؟
فعلى أي وقع ستكون خلافته للباجي، الذي اصطنعه بدون شك لا لوراثته دون ابنه قطعاً، فغيبه الموت قبل أن يشهد خروجه من قرطاجة علي يديه بالدستور؟
* باحث جامعي و نائب سابق في البرلمان.
شارك رأيك