إنّ الناظر إلى السياسة ومرجعياتها ليجد فيها دعوة إلى الوفاق وضبط سلوك الأفراد تكاد لا تضاهيها دعوة أخرى، وهذا ما يطرح على الأذهان لماذا كل هذا العنف باسم السياسة، ولماذا كل هذا التجاهل لمقوّمات السلم والاستقرار والتآخي المادية والمعنوية؟
بقلم محسن بن عيسى *
إنّ الصورة الحالية للمشهد السياسي في تونس قبل أقل من أسبوعين عن الدورة الأولي للإنتخابات الرئاسية السابقة لأوانها غير مُطمئنة والمسارات الخاطئة التي إتُّخذت منهجا للعمل السياسي قد وصلت بالوفاق الاإجتماعي إلى طريق مسدود.
الصراع على الحكم والنفوذ قبل المبادىء والبرامج
يُوضع في المألوف السياسي عامّة ” السياسي والمتحيّل” في شبكة واحدة تدليلا على سهولة التمكن من المناصب السياسية وعدم حفظها وصَونها، فينال المتحيّل مبتغاه خلافا لمعايير السياسة وقوانينها، بينما يستمد الفاعل السياسي كفاءته من القدرة على تدبير الشأن العام أو إبداء الرأي بخصوصه أو تغييره.
ولا شك أنّ الفوضى المسيطرة على النظام الإجتماعي عموما هي المولّدة لذئاب السياسة، والسلطة القاصرة، وهي المتسبّبة في ارتهان الشعب الذي ينشُد الأمن ويخاف الجوع إلى درجة عدم الإهتمام بمن يحكمه ويكفيه أمنه الوجودي والغذائي. وللأسف أنه رغم الحداثة الحزبية والنقابية التي تشكّل وجها من أوجه التأطير والتثقيف السياسي، لا زالت آليات التحيّل السياسي تعمل على تزييف الوعي العام ومحاكمة الواقع الذي تجهله بعقل إلتباسي.
ويعود بنا هذا الواقع إلى أطروحات مكيافيلي أوّل من أسبغ على السياسة صفة اللاأخلاقية في كتابه ‘الأمير”، وأوّل من دعى إلى فكرة “الغاية تبرّر الوسيلة” وألصق بها معاني التمويه والخداع. لذلك تبدو المبادئ السياسية قائمة على أسس الرغبة في خدمة الشعب وتحقيق مصالحه والحفاظ على أمنه وسلامته وحماية البلاد من الأعداء ولكن شهوة الحكم لدى الكثير تغلب على هذه المبادئ لتصبح هي الهدف الأساسي ليس إلا.
وفي ظل هذه اللهفة يتحوّل العمل السياسي من تنوير الرأي العام وجعله أكثر إدراكا بالتحديات المطروحة، إلى عمل هدفه التسييس الإجتماعي للأفراد والجماعات كسبا لولائها للأحزاب والفوز في الإنتخابات.
إنّ الظروف الراهنة تدعو إلى تبنّي إرادة وطنية جديدة لتقويم التجربة الديمقراطية لدينا وقطع الطريق أمام هيمنة الإرادات الشخصية وهذه أولى خطوات التأسيس الصحيح. تبدو الحاجة ضرورية إلى الإرتقاء بالممارسة السياسية على معنى رأي ابن خلدون الذي منح السياسة صفة إيجابية صناعة الخير العام، وقد رجّح خيرها على شرّها، واصفا الإنسان بأنّه إلى الخير أقرب”.
الإنحراف السياسي واستهداف الدولة
إنّ ظاهرة الإنحراف السياسي لا ترتبط بدولة ما دون غيرها ولا بالأنظمة القائمة، وإنما ترتبط بضعف البُنى المدنية للدولة واختلال توازن سلطاتها و الصراع على السلطة، هذا فضلا عن الأزمات الإقتصادية والتدخلات الأجنبية واختلال موازين القوى فيها.
وإذا أخذنا بالعقلانية السياسية التي تحاول التأسيس لسياسة بلا وهم و لا زيف، فالصراع على السلطة لا يُحسم في الغالب مؤسّسيا أو تشريعيا، وإنما يُحسم بامتلاك عناصر القوة التي كانت وما زالت هي الفيصل في السباق على السلطة والثروة. و ليس جديدا أن تقترن هذه الظاهرة بالرغبة في التغيير للحكم باستخدام القوة أو التهديد بها، أو قيام الحكومات التي جاءت إلى السلطة عبر الوسائل الديمقراطية بتقويض المؤسسات الوطنية تدريجيا للحفاظ على استمرارها.
ربّما يكون من الجائز القول بأنّ مستقبل التغلّب على ظاهرة الإنحراف السياسي لدينا تبدو مرتبطة ارتباطا عضويا بالقدرة على الإصلاح وبنوعية الحلول التي يجري استنباطها، فضياع التوازن بين المكونات الرئيسية للمجتمع والأركان التي قامت عليها الدولة هي أبرز التحديات الرئيسية للمرحلة الراهنة. إنّ الإنحراف السياسي الذي يفضي إلى المساس ببُنية الدولة يتبعه حتما انهيار الحكومات وتفكّك البلاد وتحوّلها الى مناطق نفوذ وجماعات.
علينا أن نستخلص الدروس من الإنقسام الذي تعيشه بعض الأقطار العربية نتيجة الصراع على السلطة وإضعاف الدولة وتقويض سلطاتها. ومن أبرز دلالات انهيارها هو ظاهرة الإستقواء بالأجنبي باعتباره المنقذ، والحال أنّه هو الذي يحرّض الحكام والسياسيين ضد بعضهم ويحمي استبداد وانحراف بعضهم ويدفع بالشعوب نحو الإنقسام وهو الذي يؤلب الاسلامي على القومي والعلماني على المتديّن والليبرالي على الشيوعي لتظل الدولة مُجزّأة.
كيف نقبل تدخّل سياسة البترودولار في الشأن الداخلي التونسي ؟
إن العالم يعيش نهاية عصر الهيمنة الغربية والكثير من سياسيينا يقومون بدور مشبوه في عملية تكريس التبعية والتسليم المطلق بالغرب. كيف نتحرّر ونستقل دون أن يتوفّر لنا أقصى درجات الشعور بالإنتماء الحضاري والتاريخي المتأصّل فينا؟ ولتدارك الأخطار بات واجبا أيضا التذكير وأنّ تدخّل دول عربية في شؤون دولة عربية أخرى لم يحدث حتى في العصور الرديئة من التاريخ، فكيف نقبل تدخّل سياسة البترودولار في الشأن الداخلي التونسي ؟
لنتّفق أنّ الوطن أكبر منّا وأكبر من اختلافاتنا وانقساماتنا، وأنّ الجميع في خدمة وحماية الدولة مهما اختلفت الإجتهادات وتعدّدت الرؤى، وليكن اختيارنا للقادة ولممثلينا في مواقع القرار عبر منظومة الأخلاق والقيم.
* ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك