تابعت باهتمام المناظرات التلفزية للمترشحين للإنتخابات الرئاسية للأحد المقيل 15 سبتمبر 2019 التي تكشف دون عناء الإلتباس القائم حول الأمن القومي، ولاشك أنّ الفهم الحقيقي لهذا المفهوم في صورته الراهنة والكيفية التي توسّع بها أصبح ضروريا لتفكيك هذا الالتباس وتبسيطه في سياق تطوير السياسة الأمنية العليا وممارساتها.
بقلم محسن بن عيسى *
مفهوم الأمن القومي
يشير مفهوم الأمن القومي نظريا وعمليا إلى القيم النظرية والسياسات والأهداف العملية المتعلّقة بضمان وجود الدولة وسلامة أركانها وديمومة استمرارها وشروط استقرارها وحمايتها من الأخطار القائمة والمحتملة داخليا وخارجيا، وكذلك حماية المواطنين وتلبية احتياجاتهم، وتأمين مصالحهم، مع مراعاة المتغيّرات الداخلية والإقليمية والدولية.
وطبيعي ألاّ يقتصر الأمن القومي بحكم مهامه الرئيسية في حماية الدولة وأركانها ومقوماتها وحماية الشعب من المخاطر والتهديدات مهما كانت طبيعتها أو مصادرها، وإنما يشمل بالضرورة قضايا التنمية وتحقيق الرّخاء الاقتصادي هذا فضلا عن تعزيز قيم الديمقراطية والحرية وسيادة القانون والعناية بها كقضايا مجتمعية من حيث نطاقها وشروطها، لتكون المؤسسات الوطنية الاجتماعية والسياسية كلّها معنيّة بها ومسؤولة عنها.
لا يوجد محدّدات عالمية لصياغة الأمن القومي فكل دولة تعكس في مفهوم أمنها السياق الخاص بها، لذلك نجد حسب واقع وظروف الدول من يحدّد للأمن القومي ثوابتَ مثل تحديد مصالح الأمن الحيوية للدولة وتعريف التهديدات لهذه المصالح، وتجميع الإمكانيات العسكرية والاقتصادية والسياسية لحماية هذه المصالح, وهناك أيضا من يختزلها في حماية التراب الوطني و الشعب والسيادة.
وعموما هناك ثلاثة عوامل أساسية أثّرت بشكل كبير في تحليل وممارسة الأمن القومي في السنوات الأخيرة وهي تراجع السيادة الوطنية، تزايد تفاعلات المخاطر والتهديدات في اطار ما يعرف بما “فوق الوطني” أو “لما بعد الحدود الوطنية”، وانفجار المشهد الدولي تحت ضغط ديناميات الهوية. واستنادا لذلك تتجه الاهتمامات إلى مراجعة المناهج المتعلقة بتدريسه واستعمال الفكر فيه وممارسته.
الاشتباك بين القومي والوطني
تعود جذور اشكالية استعمال لفظ “الأمن القومي” كمرادف “للأمن الوطني”، إلى الفقه الغربي الذي يقف بالمفهوم عند حدود الكيان السياسي والقانوني المُحدَّد المعالم، ويفيد بدرجة أولى أمن الدولة. والحال أن الدولة بوصفها صورة حديثة للمجتمع السياسي قد ارتكزت في نشأتها على مفهوم “الأمة”، وما يرتبط ذلك بمفاهيم السيادة ووحدة الانتماء والمخاطر و المصير.
ويتنزّل التباين الحاصل في مفهوم “الأمن الوطني” و”الأمن القومي” في هذا السياق، حيث تعتمد بعض الدول تعبير “الأمن القومي” للدلالة على أمن الدولة، فيما تفضّل أخرى الفصل بين “الأمن الوطني” في مفهوم أمن الدولة الواحدة، و بين الأمن القومي كمصطلح خاص بأمن عدة دول تشترك في صفة أو مصلحة معيّنة.
ليس هناك تماثل بين الأمن القومي وأمن الدولة (الأمن الوطني) وليس هناك تطابق بين القومية والدولة، ومن الصعب أن نفسّر مصطلح الأمن القومي كتعبير عن الدولة – الأمة، وأن نضفي صفة “القومية” على الأمن بدعوى تعدّد مجالاته وأبعاده ومؤثراته.
يظل الجدل حول هذا التشابك مسألة غير محسومة ويرجع ذلك إلى عدد من الأسباب أبرزها أن مفهوم الأمن يحوي بعض العناصر المعيارية التي يمكن الاتفاق على تعريفها سواء من الناحية النظرية أو على البيانات والدراسات الإمبريقية.
الاختلاف بين السياسة والاستراتيجية
غالبا ما تستعمل مفاهيم ” السياسية” و “الاستراتيجية” في الأمن القومي بشكل غير واضح أو فيه شيء من التبادل والتداخل. والحال أنّ سياسة الأمن القومي تعني تحديد الأولويات والأهداف في القضايا الأمنية التي تعتزم السلطة التنفيذية اعتمادها . فيما تُحّدد استراتيجية الأمن القومي طرق تحقيق هذه الأهداف ووضع الخطط و الإجراءات العمليّة وآليات التنفيذ.هذا فضلا عن تدارس كيفية اعتماد هذه الاستراتيجيات على المدى المتوسط والطويل مع التحكم في الموارد.
ورغم الأهمية التي يكتسيها هذا الاختلاف بين المفهومين ليصبح موضوعا سياسيا، فان الحاجة تستدعي بيان مدى التفاعل الحاصل رغم ذلك بين السياسية والاستراتيجية حيث تضبط الثانية كيفية تحقيق أهداف الأولى.
وأعتقد بناءً على ذلك أن المسؤوليات واضحة لدينا على مستوى الرئاسة والمجلس القومي في خصوص التكفل بالسياسة الأمنية العليا للدولة وفي خصوص تبنّي وزارات السيادة وهياكلها للإستراتيجية أو الإستراتيجيات التنفيذية للأمن القومي. وتجدر الاشارة هنا إلى أنّ سياسة الأمن القومي تعتمد أيضا على إسهامات الجهات القضائية والمالية والدبلوماسية والتنموية والاقتصادية والفلاحية والنقل والصحة وغيرها عند الحاجة. هذا فضلا عن إسهامات الاعلام ومنظمات المجتمع المدني والجامعيين والخبراء، وتعزيز شرعية هذه السياسة وتوجهاتها عبر استشارات عامة.
لم يعد ممكنا اخفاق النخبة السياسة في تعريف الأمن القومي وتوضيح التداخل بين حدود الوطني والقومي، ومن غير المقبول استمرار التعامل مع هذا الواقع دون مراجعات نقدية.
* ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك