المسار الديمقراطي التونسي ضحية دستور أعرج وضع على مقاس بعض الأحزاب العقائدية و قانون إنتخابي يعطي المجرمين والفاسدين والإرهابيين ومصاصي دما الشعب “حق الترشح ” لحكم البلاد.
بقلم مصطفى عطية *
يبدو أننا فقدنا البوصلة وعصفت بنا الرغبات المنفلتة فغرقنا في “المعارك الدونكيشوتية ” الخاسرة، وقد تجلى ذلك خلال السنوات التسع العجاف وما تراكم فيها من أزمات خطيرة أدت إلى تغذية الغضب والحنق لدى المواطنين. صحيح أننا في خضم حملات إنتخابية لٱختيار رئيس للجمهورية ستليها حملات مماثلة لٱنتخاب نواب الشعب، ولكن في أي ظروف إقتصادية واجتماعية وأمنية ؟ وهل أن الديمقراطية بكل قيمها ومبادئها وشروطها وٱلتزاماتها وأهدافها تختزل في صندوق إنتخاب ؟ هذا ما يردده التونسيون بحيرة بالغة في أحاديثهم اليومية.
تسع سنوات من التجاوزات الخطيرة
تسع سنوات من المزايدات الجهوية التي تقطر وضاعة، وأخرى طبقية ملوثة بأوحال الحقد الأعمى والحسد الأسود والمتاجرة الشعبوية الرخيصة بآلام الناس ومعاناة الفقراء والمعوزين والضحك على ذقون الحالمين والطامحين والمتطلعين، والكذب والبهتان والوعود الزائفة والتحيل والفساد والتحريض على الإرهاب وتبييضه، تسع سنوات من كل هذه التجاوزات الخطيرة والجرائم النكراء تم اختزالها في هذه الحملات الإنتخابية المسمومة والمناظرات التلفزية المشحونة بكل أنواع الوضاعة.
كل هذا ” الكوكتال” الرديء أفقدنا ” تونسيتنا”، تلك التي كنا نتباهى بتجذر مقوماتها، وأضاع عنا نموذجنا “الخصوصي”. ذاك الذي زرع المصلحون بذوره الأولى وتعهده بناة الدولة الحديثة بالرعاية والإحاطة حتى إستكمل ملامحه الأساسية
لم تكن المصطلحات اللغوية الملوثة بالعنف المعنوي والمادي وتمجيد الإرهاب والترويج لمقارباته، و الكلمات الملطخة بدنس التشفي تجد مكانا لها في القاموس اللغوي التونسي المتداول، ولم تكن آفة العشائرية والقبلية والجهويات المقيتة والصراعات الطبقية المشحونة بالخلفيات الدنيئة، متفاقمة بهذا الشكل الدرامي المفزع، كما لم تكن “النخب” السياسية والإعلامية هي المغذية لهذا المد التدميري ولا المحرضة على الإندراج في مستنقعاته كما هو الحال الآن.
لقد تغير كل شيء وخرج التونسيون من جلودهم ليجدوا أنفسهم في معترك صراع متهور مع ذواتهم وقد تتالت الأحداث والوقائع التراجيدية-الكوميدية بشكل خطير حتى وصل أغلبها إلى حد الإستهتار بكل القيم والمبادئ، وٱستهداف المجتمع ومقوماته، وٱنتهاك معاني ومقاصد الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وذلك لغياب الردع الفاعل والحازم بجميع أشكاله القانونية والأخلاقية، ولوجود دستور أعرج وضع على مقاس بعض الأحزاب العقائدية و قانون إنتخابي يعطي المجرمين والفاسدين والإرهابيين ومصاصي دما الشعب “حق الترشح ” لحكم البلاد.
لا يمكن للمسار الديمقراطي أن يتواصل في خضم هذه الأوضاع المتردية ولا يمكن للإنتخابات أن تكون نزيهة مهما كان إجتهاد المنظمين كما لا يمكن للإصلاحات الموعودة أن تأخذ طريقها إلى التنفيذ في ظل هذه التجاوزات الخطيرة التي تقترف بٱسم الديمقراطية، بل أن مخاطر الإنحراف في جميع المسارات هي الأكثر إحتمالا، وقد بدأت مؤشرات ذلك تظهر للعيان بعد أصبحت الدولة عاجزة عن فرض القوانين تاركة الحبل على الغارب للفوصويين والإنتهازيين، فما حدث لبعض المسؤولين الذين فروا بجلودهم من غضب الرافضين لهم في عدة مناطق، وما تتعرض له النخب، كالمحامين والأطباء والمهندسين والأساتذة والجامعيين والإعلاميين والصيادلة وغيرهم، من تشويه لسمعتهم وتشكيك في نزاهتهم وتكثيف للإتهامات ضدهم يؤكد أن السلطة ومؤسساتها فقدت السيطرة على الأوضاع ولم تعد قادرة على حماية إطاراتها ومسؤوليها ونخبها، وهي حالة خطيرة قد تمثل إذا ما استفحلت أكثر، نقطة اللاعودة في علاقة السلطة الحاكمة بالمواطنين.
الإندفاع الهستيري المحموم نحو كراسي السلطة بحثا عن الحصانة
لا شك أن الإندفاع الهستيري المحموم الذي يبديه الكثير من السياسيين هو نتيجة رغبة منفلتة في التوظيف الإنتهازي للقيم والمبادئ والقفز العشوائي على معانيها والتدثر بها لخدمة مصالحهم الشخصية والحزبية الضيقة وتنفيذ أجنداتهم وأجندات داعميهم ومموليهم بالداخل والخارج، خاصة وأن هذه الرغبات توحد أصحاب “المصالح المشتركة” على أساس الإنتفاعية المتبادلة والمقايضة في كل المجالات، لكن الأخطر، في هذا السياق، هو الإدعاء الباطل بأن ما يحدث هو ضرب من ضروب الحرية والديمقراطية.
من المؤسف أن نصل إلى هذا الحد من تلويث الديمقراطية وتدنيس مبادئها وقيمها والعبث بشروطها وٱلتزاماتها، ومن العار أن نتباهى ب:” ديمقراطية” تمكن المعتوهين والجهلة والمتحيلين والإرهابيين والفاسدين وأصحاب السوابق الإجرامية والهاربين من العدالة من “حق” الترشح للمناصب القيادية في الدولة بتعلة “الحرية ” المزيفة” والدستور الأعرج والقانون الإنتخابي المفتوح على كل التجاوزات.
* صحفي و كاتب.
شارك رأيك