من الثابت أن حصيلة حكومة الشاهد لم تكن وردية ولكنها أيضا لم تكن سوداوية كما يحاول البعض تصويرها. يمكن القول بالمحصلة أن هذه الحكومة تفادت الأسوء فلم تجمد الأجور ولم تخوصص المؤسسات العمومية كما حصل في اليونان أو الأرجنتين أين تدخل صندوق النقد الدولي أنقذت المالية العمومية والصناديق الاجتماعية وأوقفت سقوط الدينار ووضعت الاقتصاد الوطني على سكة الإقلاع.
بقلم أحمد فرحات حمودي *
قبل البداية
كانت المهمة الأصلية التي انخرطت لأجلها في عالم السياسة هي مقارعة الاستبداد وخلخلة أركانه ولكن في نفس الوقت حصر معركتنا مع الاستبداد داخل مجالنا الوطني دون تدخل خارجي هكذا تعلمت وهكذا كانت قناعتي دائما.
قاومنا الاستبداد بكل شجاعة وجدارة وجسارة لم نكن نعلم أننا سننجح في المدى المنظور كنا نكافح من أجل أن تحيا الأجيال القادمة في مناخ الحرية عزيزة مكرمة كغيرها من الشعوب الحرّة والراقية. قلت لم نكن نحلم بأننا سنعيش لحظة تهاوى الاستبداد ولكن الشعب التونسي الجبار فاجأنا بقدرته الفائقة في لحظة تونسية فارقة.
لست مضطرا بداية، إذ الكل يعرفني، أن أذكّر أنني لم أمارس الفعل السياسي يوما تملقا أو خوفا أو طمعا. كنت حرا ولازلت في كل مواقفي السياسية التي اتخذتها طيلة مسيرتي السياسة. انخرطت في الفعل السياسي العلني قبل أكثر من ستة عشر سنة صلب مدرسة سياسية أصيلة (الحزب الديمقراطي التقدّمي) نهلت من قياداتها مية ونجيب ومنجي وعم صالح معاني وقيم الكفاح والتضحية من أجل شعبي وبلدي.
مرت السنوات ورغم التعثرات وحالة الهلع من عودة استبداد أشرس متخفي بعباءة الدين فإن الشعب التونسي ونخبه أثبتت مرة أخرى جدارتها وحافظت على تجربتها الديمقراطية الفتية وكان معلوم عندي أن للانتقال الديمقراطي كلفة اقتصادية باهظة فتراجع الإنتاج والاستثمار وتفاقمت مشاكل المالية العمومية التي واجهتها حكومات الثورة بالاعتماد على مخزون الدولة الاستراتيجي حفاظا على قيمة العملة الوطنية وعلى القدرة الشرائية واستجابة للمطالب الاجتماعية المتصاعدة فكان أن انخفض المخزون من حوالي عشرة مليارات دولار سنة 2010 إلى 5.5 مليار دولار بداية 2016 وتفاقم عجز الميزانية ليصل سنة 2016 إلى 7.4 بالمائة من الناتج المحلي الخام ما دفع حكومة السيد حبيب الصيد إلى الاستنجاد بصندوق النقد الدولي وأمضت معه اتفاقا شهر ماي من سنة 2016 وأهل الاقتصاد يعرفون ما معنى أن يدخل صندوق الدولي إلى بلد لا سيما وأن تونس لها تجربة في ذلك عندما أمضينا مخطط الاصلاح الهيكلي في اوت 1987 عندما كان رشيد صفر وزيرا أول.
كانت البلاد إذن وسط 2016 مقبلة على سنوات تقشف عجاف خاصة بعد تلقينا ضربات ارهابية قاتلة هددت وحدة التراب الوطني ما دعى الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي إلى إطلاق مبادرة سياسية أفضت إلى وثيقة قرطاج وإلى حكومة وحدة وطنية ترأسها الشاب يوسف الشاهد كاتب الدولة للشؤون المحلية حينها.
الديمقراطية الاجتماعية كما أراها:
تتعدد التعريفات للديمقراطية الاجتماعية ولكنها تتفق على أنها ليست نظرية ناجزة بل هي إجراءات وسياسات تنشد العدل الاجتماعي داخل منظومة الاقتصاد الحر وهي عندي سياسات وإجراءات تهدف إلى الحد من الفوارق والحماية الاجتماعية وتوفير الخدمات الأساسية العمومية والحفاظ على الموارد وحماية البيئة وأن الدولة وحدها موكول لها تحقيق هذه الأهداف. وبما أنني أعتبر نفسي “ديمقراطي اجتماعي” فإن تقييمي لأداء الحكومات لا يخرج عن تقييم مدى تحقيقها لهذه الأهداف.
حكومة الوحدة الوطنية : الموقف الصعب
لم يكن سهلا عليا أن أحدد موقفا من حكومة الوحدة الوطنية إذ كان موقفي الأول من تعيين يوسف الشاهد على رأسها سلبيا فقد حبذت أن تكون شخصية سياسية مستقلة لها من الخبرة السياسية ما يمكنها من مجابهة الصعوبات المحدقة والتي سيسببها اتفاق ماي 2016 مع صندوق النقد الدولي كما ذكرت ذلك سلفا.
ولكن بعد التروي والنقاش مع بعض الأصدقاء اقتنعت بصواب اختيار رئيس الحكومة الجديدة لسابق معرفة به صلب الحزب الجمهوري ومعرفتي بأفكاره ومرجعيته الأيديولوجية وقلت لما لا؟ سيكون حكمنا على الحكومة من خلال اجراءاتها وسياساتها وزاد اقتناعي بصواب الاختيار بعد خطاب رئيس الحكومة الجديدة خلال التصويت على منح الثقة في البرلمان عندما كان صريحا وقال إننا مقبلون على سنوات صعبة وأن المؤشرات لن تأخذ طريق التحسن قبل 2019. ومن خلال الفريق الحكومي الذي كنت أعرف أغلبه بما أننا كنا معا في الجمهوري وقلت أيضا يمكن أن تفتح هذه الحكومة أفقا سياسيا في ظل تراجع نداء تونس للأزمة التي كانت تعصف به.
كان أول امتحان هو ميزانية 2017 و 2018 اللتان كان هدفهما الأول إيقاف النزيف بالحد من عجز الميزانية والابتعاد عن شبح الإفلاس والكل يعلم أن ذلك لن يكون إلا بزيادة المداخيل العامة وتوسيع قاعدتها فكان الاتجاه إلى زيادة الأداء على ارباح الشركات بسبعة نقاط ونصف وهو ما سيؤدي لاحقا إلى زيادة الأسعار وتم تعديل القاعدة الضريبية على الأجور لتتراجع النسبة على الأجور الضعيفة وتزداد على الأجور المرتفعة كما تضمنت قوانين المالية اجراءات تشمل فئة الأطباء والمحامون وقد عارضها المحامون والاطباء اعضاء مجلس النواب من مختلف الأحزاب والتوجهات وانتهت بسقوط هذه الاجراءات بعد انتفاضة هذين القطاعين.
هل كانت هذه الإجراءات تذهب في اتجاه الحد من الفوارق؟ الجواب هو نعم لذلك ساندت الحكومة ودعمتها ودعمت رئيسها الذي بدأ الحزام السياسي من حوله يتناقص عندما تطاولت السياسة على مصالح بعضهم.
كان واضحا أن الإجراءات الصعبة من أجل الحد من عجز الميزانية ومن عجز الصناديق الاجتماعية (اقتطاع 1 بالمائة من الأجور وزيادة نقطة في الأداء على القيمة المضافة) ستكون على حساب الفئات الهشة التي تعاني أصلا من انعدام المداخيل لذلك تضمنت قوانين المالية توسيعا للإعانات الاجتماعية للعائلات المعوزة لتشمل 285 الف عائلة.
كما تم احداث برنامج الأمان الاجتماعي ليشمل 900 ألف عائلة لم تكن تتمتع بالتغطية الاجتماعية وإحداث برنامج احميني ليشمل نصف مليون عاملة في القطاع الفلاحي وإحداث صندوق بقيمة 10 ملايين دينار لتمويل مشروع نقل العاملة الفلاحية في وسائل نقل تقيها حوادث النقل التي تتهددها منذ أكثر من أربعة عقود وتم التوجه نحو الطاقات البديلة محطة للطاقة الشمسية في توزر بدأت بالاشتغال وأخرى في تطاوين يبدأ انجازها قريبا هل هذه الإجراءات تندرج ضمن سياسات الديمقراطية الاجتماعية؟ الجواب هو نعم لذلك ساندت الحكومة ودافعت على رئيسها.
الحرب على الفساد: المنعرج الحاسم
يذكر العديد من أصدقائي أننا عندما أطلقنا الدعوة بالحرب على الفساد في الحزب الجمهوري يوم 6 ماي 2017 في اجتماع ضخم في قصر المؤتمرات أنها ستكون حربا شرسة تبدأ بالتشويه والمغالطة على صفحات التواصل الاجتماعي وقد تصل للاغتيال مرورا بالاحتجاجات والمظاهرات الاجتماعية في ظاهرها.
وفعلا لم ننتظر طويلا بل منذ اليوم الأول من بداية الحرب باعتقال شفيق جراية والعشرات الآخرين بدأ التشكيك وقيل انها انتقائية وانتقامية وجندت الصفحات لمواجهة رئيس الحكومة ومحاولة اسقاطه وتفاقمت الاحتجاجات وتم حرق صحافي شاب في مدينة القصرين وانطلقت حركة السترات الحمراء وجدير بالتنيويه أن إدارة الفيسبوك نشرت تقريرا قالت فيه أنها أغلقت 11 صفحة تدار من شركة “آرشيماد” الاسرائيلية لتشويه يوسف الشاهد وقال تقرير منظمة “إنكيفادا” أن هذه الصفحات نشرت فيديوهات شاهدها بين 7 و 8 ملايين تونسي تهاجم وتشوه رئيس الحكومة بغاية قلب الرأي العام ضده وقد نجحت إلى حد ما في ذلك في الفترة الممتدة بين جانفي وماي 2019 لكل ذلك ساندته وعندما بدأ التفكير في بناء قوة سياسية لمساندته ودعمه بعدما تخلى عنه حزب نداء تونس وجمد عضويته، كنت من المبادرين والمؤسسين وكنت من المصرين على ترشحه لرئاسة الجمهورية.
حصيلة ثلاث سنوات من العمل الحكومة: جدل لا ينتهي
لا جدال يذكر في تحسن الوضع الأمني وخاصة في مجال مكافحة الارهاب ولا جدال يذكر أيضا في تعافي المالية العمومية إذ انخفض عجز الميزانية من 7.4 بالمائة سنة 2016 إلى 3.9 بالمائة سنة 2019 وسيكون في 2020 في حدود 3 بالمائة وهي النسبة التي تعتمدها بلدان الاتحاد الاوروبي حسب اتفاقية ماستريخت الشهيرة. كما شهد معدل النمو الاقتصادي تطورا ملحوظا من 0.6 بالمائة سنة 2016 إلى 2.6 بالمائة سنة 2018 ويتوقع أن يبلغ 2.8 بالمائة نهاية 2019 .
تميزت السنوات الثلاث على العكس بارتفاع كبير للأسعار خلال 2017 و2018 ليتجاوز 7 بالمائة وهو الآن في حدود 6.5 بالمائة ما أدى إلى تدهور القدرة الشرائية للمواطن وكان ذلك منتظرا عندي لأنه من باب المستحيل عندي أن ترتفع كل المؤشرات الاقتصادية بصفة متوازية.
كما شهد سعر صرف الدينار تراجعا كبيرا نظرا لسياسة البنك المركزي الجديدة التي لم تعد تعتمد على مدخرات الدولة للحد من سقوط الدينار بل أن هذه المدخرات شهدت ارتفاعا وذلك لأول مرة منذ 2011 لتبلغ 5.8 مليار دولار هذه السنة.
كما شهدت هذه الفترة أحداثا مؤلمة كحادثة وفاة الرضع ليكتشف التونسيون أن الرضع الوفيات يستعيدونهم ذويهم في كراتين بعد 70 عاما من الاستقلال وحادثة سقوط عاملات فلاحيات جراء وسائل نقل لا إنسانية وتراجعت الخدمات العمومية من صحة وتعليم بسبب توجه الميزانية الواضح نحو تعزيز قدرات المؤسستين العسكرية والأمنية.
قصارى القول لم تكن الحصيلة وردية لهذه الفترة ولكنها أيضا لم تكن سوداوية كما يحاول البعض تصويرها. يمكن القول بالمحصلة أن هذه الحكومة تفادت الأسوء فلم تجمد الأجور ولم تخوصص المؤسسات العمومية كما حصل في اليونان أو الأرجنتين أين تدخل صندوق النقد الدولي أنقذت المالية العمومية والصناديق الاجتماعية وأوقفت سقوط الدينار ووضعت الاقتصاد الوطني على سكة الإقلاع.
إليكم أحبتي
أصدقائي الديمقراطيين الاجتماعيين، ربما اختلفنا في التقديرات السياسية وفي بعض المواقف وهو أمر طبيعي في السياسة بما هي فعل نسبي ولكن الثابت عندي أنني كنت وسأظل دائما حر من أي ضغط عندما يتعلق الأمر بالموقف السياسي ستظل دائما بوصلتي هي المصلحة الفضلى للوطن وللمواطن.
والثابت عندي أيضا أن العالم لن ينتهي هذا الأحد رغم أهمية اللحظة وخطورتها في تاريخ تونس. وكما عهدتموني مدافعا عن الحرية والديمقراطية والعدل الاجتماعي سأظل على العهد لن أقبل بأي نزوع نحو الاستبداد سأكون أول المواجهين له إن حدث.
أجدد دعوتي لكم جميعا بنقاش معمق حول الأفكار والبرامج والتصورات بعيدا عن الثلب والتشويه والتجريح وأنا على يقين من أن هذا النقاش سيمكننا من الاختيار الأنسب لقطع الطريق أمام الشعبوية والفساد. إنها لحظة مهمة ومسؤولية على عاتقنا قدرنا أن ننجح لنساعد وطننا على تخطي كل الصعوبات والمخاطر التي تهدده.
* ناشط سياسي.
شارك رأيك