حركة النهضة تكاد تنكسر سياسيا وفي إنحدار مستمر في ظل نظام ديمقراطي نزيه مما يؤكد أنها وجدت صعوبة بالغة في التأقلم و الصعود في النظام الديمقراطي، فالديمقراطية التي ترتكز على قاعدة تقييم الناخب بآلية صندوق الإقتراع أصعب بكثير من الدكتاتورية التي تعطي مشروعية كاملة لأي حزب معارض.
بقلم فيروز الشاذلي
حركة النهضة التي طالما مثلت قلعة شامخة عصية على رياح التجاذبات السياسية و الانقسامات الداخلية أصبحت بعد كل إستحقاق إنتخابي تتداعى أعمدتها بفعل زلازل صندوق الانتخابات و تبيّن أنها ليست بتلك القلعة الحصينة عن التشققات بل أبناؤها الأصيلين التي تأسّست النهضة على سواعدهم أصبحوا متباعدين أكثر من أي وقت من الشيخ راشد الغنوشي والدائرة المقربة منه خاصة النافذين في المجلس التنفيذي للحركة مما جعلها تفقد 70 بالمائة من خزانها الانتخابي.
سلم الانحدار السياسي
أصبح واضحا وبلا الشك أن حركة النهضة تعاني من مشكلة سياسية داخلية عميقة جعلت المناصرين يبتعدون عنها للبحث عن شخصيات أخرى تمثل رؤيتهم السياسية في المشهد التونسي المتحرك، فبعد أن كانت الحركة تحظى سنة 2011 في انتخابات المجلس التأسيسي بحظوة مليون ونصف ناخب من الشعب التونسي حيث كانت تمثل رقما صعبا في المشهد السياسي التونسي لكن بعد ذلك أصبح نجمها السياسي الساطع في محفل السياسة يميل إلى الأفول وكانت البداية مع الانتخابات التشريعية سنة 2014 حيث منيت الحركة بهزيمتها الانتخابية الأولى في نظام ديمقراطي بحت وقد مثلت مفاجأة ليس فقط في تونس بل العالم العربي بأسره باعتبار الحركة أول حزب ذو خلفية إسلامية يخسر الحكم بانتخابات نزيهة وشفافة فقد تحصلت الحركة على أصوات قرابة 950 ألف ناخب أي أنها خسرت ثلث ناخبيها سنة 2011 مقابل ربح ساحق لنداء تونس بقرابة مليون و 250 ألف ناخب مما مثّل أول صدمة لحركة النهضة.
هذا المسار التنازلي إستمر بعد ذلك في الانتخابات البلدية سنة 2018 لتفقد الحركة أكبر قدر ممكن من الناخبين ليصل أدنى حد فلم تستطع الحركة جمع أكثر من 400 ألف صوت في حصيلة هزيلة لكن زعماءها لم يستخلصوا الدرس نظرا لتزعم الحركة لقائمة الأحزاب الفائزة في الانتخابات البلدية وتناسوا أن الغلبة في الانتخابات البلدية كانت للمستقلين.
عدم المبالاة بتفاعل الناخب و تعامل بعض رموز الحركة مع المناصرين كأصل تجاري أبدي جعلهم يستفيقون على حقيقة أن صندوق الاقتراع هو ملك إرادة الشعب ونتيجة ذلك هزم مرشح النهضة للدور الأول للرئاسية السابقة لأوانها الشيخ عبد الفتاح مورو ولم يمر حتى للدور الثاني التي كانت تطمح له الحركة و المهم أن عدد الأصوات لم يتجاوز الانتخابات البلدية بكثير فقد حصد المرشح عبد الفتاح مورو قرابة 434 ألف صوت.
إجمالا حركة النهضة خسرت بين سنة 2011 و 2019 قرابة مليون و 100 ألف صوت أي فقدت نسبة 70 بالمائة من قواعدها الانتخابية ولو استمرت الأمور التسييرية و التنظيمية للحركة على هذا المنوال فهي ذاهبة نحو التموقع ضمن الأحزاب الأقلية كما يتم وصفها في تونس بأحزاب صفر فاصل.
العيش في الديمقراطية أصعب بكثير من العيش الدكتاتورية
كما أشرنا سابقا فحركة النهضة تكاد تنكسر سياسيا وفي إنحدار مستمر في ظل نظام ديمقراطي نزيه مما يؤكد أن هذا الحزب وجد صعوبة بالغة في التأقلم و الصعود في النظام الديمقراطي، فالديمقراطية التي ترتكز على قاعدة تقييم الناخب بآلية صندوق الإقتراع أصعب بكثير من الدكتاتورية التي تعطي مشروعية كاملة لأي حزب معارض بل تساعد في تحشيد المناصرين حوله بفعل التنكيل بأعضائه وتهجير كوادره نحو الخارج فأسهل الأمور أن تكون حزبا إحتجاجيا يدافع عن قيم الديمقراطية و أن يكون في موقع المثالية.
لكن في الحكم الديمقراطي فالحزب هو في مرحلة امتحان انتخابي دائم جعل حركة النهضة تتعرى من منطق المثالية وتتبيّن أخطاءها في التعامل مع متطلبات الثورة التونسية، فالحركة قدمت نفسها على أساس حامي للثورة التونسية ليجدها الناخب التونسي في نهاية المطاف مجرد حزب يميني محافظ، رجعي انتهازي في نظر خصومه وعدد من أبنائه الغاضبين أيضا.
إتهام الحركة بالتنكر لأهداف الثورة
أهم عيب يعيبه مناصرو حركة النهضة الذين أيّدوها منذ البداية مدفوعين بذروة التعاطف مع المظلومية التي تعرضت لها سنوات بن علي هو تنكرها لأهداف الثورة لذلك هم يعاقبونها من خلال الإحجام عن التصويت للحزب كثمن أخلاقي للتحالف مع منظومة قديمةلم تعتذر يوما ولم تتوقف عن محاربة الثورة والسعي لإفراغ مكاسبها من أي محتوى.
كما بات واضحا عدم رضا المناصرين عن الكم الهائل من الانتهازيين الذين إلتحقوا بالحزب والأولوية التي أعطاها رئيس الحركة لاسترضائهم و استبدال قاعدة الكفاءة بالولاء.
أنصار الحركة أصبحوا يشبهون حزبهم “بالتجمع الملتحي” لما لاحظوه من عودة لممارسات التجمع و رموزه نتيجة تطبيع الحركة مع كوادر التجمع وتوزيرهم في الحكومات المتعاقبة التي لم تعط أية نتيجة إيجابية لأعماق تونس الشعبية بل كرّست الأزمة الاقتصادية التي تعتبر هي في حد ذاتها نتاج نظام التجمع الفاسد الذي أعادت النهضة رسكلته من جديد.
التصدّع النهضة والعزلة الخارجية
على مدار سنوات كانت كوادر النهضة و على رأسها زعيم الحركة الشيخ راشد الغنوشي يتباهون بمتانة الحركة وحل مشاكلها الداخلية ضمن الآليات الديمقراطية لكن بات بالكاشف الآن وجود تصدعات عميقة داخل الحركة و أن مشاكل هيكلية وتنظيمية داخلها خاصة المشاكل المتفاقمة بين مجلس شورى النهضة الذي يضم غالبية القواعد وبين المجلس التنفيذي الذي يضم أعضاء محسوبين على الشيخ راشد الغنوشي ومتهمين بالسطو على الحزب و الإستفراد على قرار الحركة.
هذه الخلافات إستفحلت بعد المؤتمر الأخير للحركة حيث برز تيار واسع داخلها معارض لتوجهات الشيخ راشد الغنوشي بقيادة كل من عبد اللطيف المكي ومحمد بن سالم، لتشتدّ الخلافات بعد قيام المجلس التنفيذي بتغيير رؤساء القوائم التشريعية المناوئين للغنوشي وبعدها انتقال الصراع إلى أروقة مجلس شورى النهضة حول اعتماد مرشح من خارج الحركة لتتم محاولة تطويق الخلافات بترشيح عبد الفتاح مورو للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها لكن هذا المخرج لم يفلح في لملمة الأمور بل فاقمها بعد خسارة مرشح النهضة من الدور الأول للانتخابات.
إستقالة زبير الشهودي وكشف المستور
كانت استقالة القيادي بالحركة زبير الشهودي عبر تدوينة على صفحته الرسمية بالفايسبوك كافية لكشف حجم الخلافات الداخلية العميقة للحركة و أبعادها المعقدة على ضوء الانتكاسة التي سجلتها الحركة في الانتخابات الأخيرة وفي سابقة دعى الشهودي رئيس حركة النهضة إلى اعتزال السياسة وان يلزم بيته ومحرابه ويبعد صهره رفيق عبد السلام وكل القيادات الذين اعتبر أنهم دلسوا إرادة كبار الناخبين في اقصاء مباشر لكل المخالفين في الرأي من نساء وشباب وقيادات تاريخية.
الخطير في هذه الإستقالة هي الإشارات الواضحة إلى وجود أقلية فاسدة ومفسدة في إشارة واضحة إلى المحيط القريب من الشيخ الغنوشي مما يدل على أن الحركة سوف تشهد في الأيام القادمة صراعا كبيرا بين هذه الأجنحة الباحثة عن وهج السلطة بأي ثمن.
المراجعة ضرورية إذا لم يفت الأوان
الفشل الانتخابي لحركة كبيرة كحركة النهضة وما تمثله من خلفية ثورية لطيف كبير من الشعب التونسي ربما تكون فرصة تاريخية لمراجعة البنية الهيكلية لأخذ القرار داخل الحركة وتصويب مسارها من مواصلة تنفيذ برامج إقتصادية فاشلة عبر وزراء التجمع المنحل فلو كانوا قادرين على النجاح الحقيقي لما غادر بن علي السلطة.
الحزب الوحيد الذي يقدر على الخروج بسلامة من مقبرة الأحزاب هو الذي يستطيع تقديم حل واقعي للأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها تونس وعدم وضع ثقل الإصلاحات الكبرى على كاهله فقط وعلى حساب قوته اليومي، لكن هذا يتطلب من حركة النهضة الخروج من حالة السريالية السياسية التي تعيشها عن واقع الشعب التونسي و بالحد الأدنى عن واقع مناصريها التاريخيين.
شارك رأيك