في الوقت الذي اعتقد فيه أغلب الملاحظين في داخل و خارج تونس أن منظومة حكم تشكّلت في تونس تحت غطاء التوافق بعد سنة 2011 بداية من “الترويكا” إلى الشراكة بين النداء و حركة النهضة منذ سنة 2014، اتضح أن هذه المنظومة أو ما يعبر عنه “بالسيستام” كانت أوهن من بيت العنكبوت بالنسبة للناخب التونسي الذي كشف لحد الآن أنه يستطيع استرداد قراره متى شاء عبر صندوق الاقتراع عقابا لمنظومة لم تكن في مستوى تطلعاته وهو بذلك يريد منح الثورة نفسا جديدا.
بقلم فيروز الشاذلي
بعد استيعاب الصدمة التي أفرزتها نتائج الدورة الأولي للانتخابات الرئاسية السابقة للأوانها التي نظمت الأحد الفائت 16 سبتمثر 2019 والتي أدت إلى إقصاء رئيس دولة سابق، نائب رئيس برلمان ، 3 رؤساء حكومات وعدة وزارء سابقين، يجب التعمق في حقيقة هذا الإختيار الشعبي و ماهي التوجهات التي أراد الناخبون تحديدها وبلورتها للمستقبل السياسي التونسي.
الإنتقام من سياسة التوافق
في البداية يبدو أن الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم لكل من المترشح الأستاذ الجامعي قيس سعيد و رجل الأعمال والإعلام نبيل القروي لا تجمعهما أي صفة فالأول أكاديمي مثقف أقرب ما يكون للشباب و النخبة و الثاني أقرب إلى الإنتهازية من خلال استغلال الأعمال الخيرية وقناته التلفزية في أغراض دعاية سياسية، لكن السمة المشتركة بين الرجلين هي تقديم نفسهما على أساس شخصيات خارج منظومة الحكم ومن الممكن أن يكون كل واحد منهما هو البديل لذلك، لذلك ركز الناخبون على هذين المترشحين إنتقاما من المنظومة التي كرستها سياسة التوافق أكثر من إيمانهم بالبرامج التي قدمها المترشحان وهو ما جعل نتيجة الأسماء المحسوبة على منظومة الحكم القائمة كانت دون المنتظر بكثير.
هذا التصويت مثل عقابا لكل رموز فترة اعتبرها الناخب التونسي فاشلة في تحديد أولويات المرحلة بل وجد نفسه في كثير من الأحيان يحمل عبء فشل المنظومة لوحده فقد تناسى الفريق الحاكم بشقيه الندائي بجميع تفرعاته والنهضاوي أن ذلك المواطن البسيط الذي تم تفقيره نتيجة إجراءات التقشف بدعوى المحافظة على التوازنات المالية لميزانية الدولة هو في الأخير نفسه من سيقرر أمام صندوق الإقتراع وليس أصحاب اللوبيات والقطاعات التي تم إستثناؤها من القيام بواجبها في دفع الضرائب المترتبة على مرابيحها بالمليارات فالمواطن البسيط يراقب عن كتب ما قامت به هذه المجموعة كل سنة عند تمرير قانون المالية من إسقاط أغلبية الفصول المتعلقة بجباية هذه القطاعات وخضوع الحكومة والبرلمان لضغوطات اللوبيات القطاعية بينما أثقل كاهل المواطن البسيط بالضرائب المباشرة وغير المباشرة.
خلاصة هذا التوافق كانت نتيجته على حساب المواطن وليس في خدمته وخدمة الوطن فلا تنمية حقيقية مست ظروفه اليومية الصعبة من إهتراء قدرته الشرائية، مصاريف بلا نهاية، أسعار تتضخم يوميا، مشاكل في وسائل النقل، في التزود بالماء وبالكهرباء والقائمة تطول بمتاعبه اليومية.
بعد كل هذه المصاعب و الظروف القاهرة التي عاشها المواطن التونسي طيلة ثمانية سنوات خاصة الطبقة المتوسطة التي دفعت ثمن الانتقال الديمقراطي الهش والسياسات الاقتصادية المتذبذبة التي تعتبر في نهاية المطاف امتدادا لسياسة بن علي، بالتأكيد لن يستطيع أن يقف لتونس أكثر من هذا ويضحي من كرامته وقوت صغاره بينما البلاد تمتلئ بالفاسدين الذين تكاثروا أكثر بعد الثورة وشعار كافة الحكومات السابقة محاربة الفساد بقى انتقائيا لا يخضع لضوابط قانونية محددة.
صوت أعماق الوطن
لعل أهم مفاجأة أفرزتها الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها هي فوز المترشح نبيل القروي وما ترمز له هذه الشخصية من تداخل عالم المال و الإعلام و السياسة وبالرغم من خوضه للانتخابات من داخل السجن في إطار التحقيق في قضية تهرب ضريبي وغسيل أموال إلا أنه تحصل على المرتبة الثانية.
هذه النتيجة قابلها العديد من المعلقين والمتابعين على أنها حصيلة لتصويت الفئات المهمشة والفقيرة و العديد من النخب الحاكمة و المقربة من منظومة التوافق حاولوا أن يعطوا إشارة أن هذه الفئات لا تمثل عموم التونسيين وحاولوا أخذ مسافة من هذه الطبقات الاجتماعية عوض تفسير الظاهرة وكأنهم أجرموا في حق تونس حتى أن بعض الإعلاميين المحسوبين على منظومة التوافق دخلوا في منطق محاسبة من صوتوا لنبيل القروي أو قيس سعيد رافعين شعار “الشعب أخطأ الخيار”، لكن لا يعرفون أنهم في الحقيقة هم من أخطأوا مرتين، مرة عندما لم يحترموا حق الناخبين في الإختيار، و المرة الضانية عندما لم يستمعوا إلى أصوات هذه الطبقات الكادحة التي تعاني الأمرين من أمية منتشرة في القرى النائية وبطالة وعزلة عن باقي الوطن فللأسف حكام المنظومة لم ينفتحوا على تونس الأعماق.
هذه الثغرة إستغلها المترشح نبيل القروي منذ سنوات إستعدادا لهذه اللحظة الحاسمة عبر عشرات الشاحنات التي تعبر يوميا طرقات لم تعرفها سيارات المسؤولين و تزور قرى لم تكن على جدول أعمالهم ففي النهاية لا تستطيع أن تلوم مواطنا يعيش في قرية نائية على سفوح الجبال لا تتوفر له أبسط مقومات العيش من ماء وكهرباء وصحة من أن يصوّت لشخص وفر له قافلة صحية من خلالها قام بإجراء عملية مكلفة بآلاف الدنانير لأحد أبنائه بينما القرية التي يعيش فيها لا تتوفر على مستوصف وفي أحيان عدة حتى دفتر العلاج غير متوفر.
هذا التوجه في التصويت يتبيّن من خلال الإستماع إلى تصريحات بعض من صوتوا لنبيل القروي في الدور الأول حيث كان تبريرهم لهذا الإختيار أنهم على دراية بشبهات الفساد التي تحوم حول مرشحهم ولكنهم بالرغم من ذلك صوتوا له، أولا لأنهم يعتقدون أنه ليس الوحيد الذي تدور حوله شبهات الفساد بل أغلب الفاعلين في عالم السياسة، ثانيا وهو الأهم أنه الوحيد الذي كان ملتحما بالطبقات المفقّرة وتمكن من إيصال عشرات القوافل الصحية بينما بقية المسؤولين كانوا في عزلة عنهم ولم يروا منهم إلا الوعود ولم يتذكروهم إلا في الحملة الانتخابية حيث زاروهم بالسيارات الفاخرة و الحراسة المشددة ليعطوهم وعودا سمعوها في 2011 و 2014 .
البحث عن بديل لمنظومة الحكم
هذا الخيار نجده متبلورا أكثر مع الفئة الواسعة التي صوّتت لصالح المرشح المتحصل على المرتبة الأولى في الدور الأول الأستاذ الجامعي قيس سعيد فهنا يجب التمعن جيدا في الفئات الاجتماعية الداعمة له وهي تضم الطبقة الشبابية وخاصة الطلابية وكذلك النخب المثقفة التي تريد القطع النهائي مع منظومة التوافق ونتائجها الكارثية على الاقتصاد التونسي.
منطق هذا التصويت واضح جدا في البحث عن شخصية من خارج هذه الطبقة السياسية التي تتاجر بمطالب الثورة من تنمية عادلة ومحاربة الفساد وعدم مهادنته من خلال شخصية بعيدة عن عالم التوافقات الإنتخابية واللوبيات السياسية ويكون واضحا في تناغمه مع مبادئ الثورة.
بعد إنتهاء المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية سواءا نجح قيس سعيد أو نبيل القروي سوف تكون شخصية من خارج منظومة الحكم السياسية التي تشكلت في السنوات الأخيرة، لكن سوف يبقى السؤال مطروحا هل تستطيع هذه الشخصية تقديم بديل للمواطن التونسي خاصة مع صعوبة الظروف الاجتماعية و الاقتصادية لتونس وكثرة الملفات الحارقة ؟ وهل يستطيع النأي بنفسه عن قوة ضغط المنظومة السابقة التي لا يستهان بها؟
شارك رأيك