عدم الإهتمام الشعبي بالانتخابات التشريعية و إعطائها قيمتها الحقيقية يعود بالأساس إلى عدم استيعاب الوعي الجماعي للمجتمع التونسي إلى ما ترتب عن التغيرات في النظام السياسي من التحول إلى نظام برلماني تكون فيه السلطة الأصلية لمجلس النواب. ولكن ليس هذا السبب الوحيد…
بقلم فيروز الشاذلي
رغم انطلاق الحملة الدعائية للانتخابات التشريعية منذ يوم 14 سبتمبر 2019 في مختلف الدوائر الانتخابية وعمل رؤساء و أعضاء القائمات على تعليق الصور والبيانات الانتخابية منذ الساعات الأولى وتنقلهم في المدن والجهات الداخلية، فضلا عن الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية في نقل ونشر نشاطاتهم وتنقلاتهم ، لكن بقيت أجواء الانتخابات التشريعية دون إهتمام كبير من المواطنين حيث لم يظهر زخم تنافس إنتخابي أو برامج حزبية لمناقشتها فكل الإهتمام منصب على الانتخابات الرئاسية التي بان واضحا أن نتائجها و المسار المترتب عنها قد طغى على الحياة السياسية التونسية.
الانتخابات الرئاسية تطغى على التشريعية
الملاحظ أن أغلب الأحزاب الرئيسية التي من المفروض أن يكون لها “باع وذراع ” في الانتخابات التشريعية مازالت لم تستفق من صدمة الانتخابات الرئاسية والهزيمة المخيبة لرؤساء هذه الأحزاب.
من جهة أخرى أصبح الإهتمام الأكبر هو البحث عن الإصطفاف وراء المرشحين للدور الثاني فكل حزب يريد أن تكون له حضوة مع أحد المترشحين تكون دافعا له في تنمية حظوظه في الانتخابات التشريعية لذلك يحاولون دفع المترشحين إلى إظهار أكثر ما يمكن من مواقف تستطيع أن تكون السطور العريضة لتحالف ممكن ولكن هذا التوجه قوبل بنوع من الفتور بحكم تركيز حملة نبيل القروي على إطلاق سراح مرشحها أكثر من أي شيء آخر. وبالنسبة للمرشح الثاني الأستاذ قيس سعيد فهو قليل المواقف وحتى في المرات النادرة التي تكلم فيها كان جازما بأنه مستقل ولا يبحث عن دعم الأحزاب.
سبب جوهري آخر جعل من الانتخابات التشريعية بلا طعم ولا نكهة هو كثرة القوائم المترشحة فيوجد أكثر من 1500 قائمة انتخابية بين حزبية وائتلافية ومستقلة تتوزع على 27 دائرة انتخابية بالداخل و6 دوائر انتخابية بالخارج، مما جعل الناخب التونسي تائها بين عشرات البرامج و القوائم وهي في أغلبها متشابهة وتبيع نفس البضاعة المتكونة من وعود انتخابية تم إعادة صياغتها تكرارا ومرارا منذ سنة 2011. فأغلب القوائم المترشحة هي عبارة عن شتات حزبي لأحزاب تكاثرت نتيجة السعي وراء المناصب أكثر منها سعي وراء مصلحة الوطن العليا.
أسباب عدم إستيعاب أهمية الانتخابات التشريعية
عدم الإهتمام الشعبي بالإنتخابات التشريعية و إعطائها قيمتها الحقيقية يعود بالأساس إلى عدم استيعاب الوعي الجماعي للمجتمع التونسي إلى ما ترتب عن التغيرات في النظام السياسي التونسي من التحول إلى نظام برلماني تكون فيه السلطة الأصلية لمجلس النواب، وهو ما يفترض تركيز الشعب على الإنتخابات التشريعية بحكم أنها الوحيدة الكفيلة بتغيير الأمور الحياتية التي تعترضه كل يوم لأن الكتل البرلمانية الكبرى هي التي سوف تتكون منها الحكومة القادمة التي ستباشر ملف النقل، الصحة، الكهرباء، الإحتكار و القدرة الشرائية و القائمة تطول من الملفات الحارقة التي إنكوى منها المواطن.
كل المعطيات تفيد بأن المجتمع التونسي مازال يعيش انطباع الحكم الرئاسي وهو ما يفسره الإهتمام الأكبر من التونسيين بهذه الإنتخابات على حساب التشريعية، ربما لهذا الوضع ما يفسره باعتبار أن المجتمع التونسي حكم منذ الاستقلال بحكم رئاسي فردي مطلق ولا كلمة تعلو فوق كلمة رئيس الدولة لمدة أكثر من نصف قرن و للآن مازال المجتمع التونسي لم يتعود على مقتضيات النظام السياسي الجديد وخاصة على تغير ميزان القوى بين السلط في الحكم وطبقا لذلك الأهمية التي يجب أن يعطيها لكل انتخابات حسب درجة أهمية السلطة المنتخبة سواءا رئاسية أو تشريعية.
مسلسل نبيل القروي
ربما لو سطّر المترشح للرئاسية نبيل القروي سيناريو بنفسه للمرور للدور الثاني لن يقوم بحبكته بمثل هذا المسار الذي تتدرج به الأحداث ليصبح ملفه محل متابعة داخليا وخارجيا وتصبح مسألة التساؤل عن احتمال الإفراج عليه من عدمها هي الطاغية على جميع التحليلات السياسية فلا يكاد يخلو أي حوار سياسي سواءا في القنوات الفضائية أو في الصحافة من هذا الموضوع وتناول إنعكاس هذه المسألة على بقية مسار الانتخابات الرئاسية مما جعل التركيز على الانتخابات التشريعية أقل بكثير بل من المنتظر أن يستفيق التونسيون على صدمة جديدة من خلال برلمان جديد غير راضين عن تركيبته بسبب عدم تركيزهم على محتوى البرامج المقدمة من قبل القوائم المترشحة وعزوفهم عن المشاركة في الإنتخابات التشريعية.
العزوف يهدد نجاح هذه الانتخابات
نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية القادمة تمثل تحديا كبيرا ليس فقط بالنسبة للهيئة العليا المستقلة للإنتخابات ولكن تحديا كذلك للمسار الديمقراطي والسياسي لتونس لأن نسبة المشاركة سوف تعطي إشارة حول مدى إقتناع وثقة الشعب في المسار الذي نخوضه بعد سنة 2011 بكله، مما سيضعف نسبة المشاركة في الإنتخابات بإعتبار أن غالبية التركيز سيكون على الرئاسيات و الإقبال على التشريعية سيشهد لا سمح الله إنتكاسة من حيث تدني نسبة المشاركة العامة التي لم تصل بطبيعتها في الدورة الأولى للإنتخابات الرئاسية إلى مستوى كبير فكانت قرابة 45 %.
من جهة أخرى نجد هناك ما يعبر عنه بعامل الإجهاد الإنتخابي وهو ما تخوف منه جميع أعضاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وذلك من خلال تتالي عمليات الإقتراع وفي مواعيد قريبة نتيجة الإكراهات الدستورية للآجال الإنتخابية مما ينعكس سلبا على نسبة المشاركة في الإقتراع مما جعل الهيئة تحبذ أن تكون الإنتخابات التشريعية والدور الثاني للرئاسية في نفس اليوم 6 أكتوبر القادم بالرغم من الصعوبة اللوجستية للجمع بين الإثنين و هذا كله للعمل على الترفيع في نسبة المشاركة، لكن هذا التمشي بات غير ممكن بعد القرارات الأخيرة للمحكمة الإدارية والطعن فيها بالإستئناف.
واقع يستفيد منه نبيل القروي وحركة النهضة
هذا الواقع الذي يميل بكل صراحة إلى عدم المبالاة بالإنتخابات التشريعية و بالتركيز المبالغ فيه بالدور الثاني للرئاسية يخدم طرفين إثنين، أولا المترشح نبيل القروي فالتركيز على الانتخابات الرئاسية يمثل بالنسبة له ضرب عصفورين بحجر واحد فمن جهة دعاية إنتخابية مجانية للدور الثاني للرئاسية وذلك على عكس ماتروّجه حملة المعني بالأمر بأن سجنه أضر بحظوظه في الدور الأول بل بالعكس لقد إستفاد بشكل كبير من وضعية السجين، ومن جهة أخرى إستفاد كذلك من التركيز على حملة الدور الثاني للرئاسية لأن ذلك يمثل حملة أحادية الجانب يتلقاها حزبه الوليد “قلب تونس” في الانتخابات التشريعية وهو ما جعل عديد المتابعين ورؤساء القائمات المترشحة للانتخابات التشريعية ينبهون لذلك.
الطرف الثاني الذي يمكنه الإستفادة من هذه الوضعية هو حزب حركة النهضة بإعتبارها الحزب الوحيد الذي يمكنه التعايش مع نسبة إقبال ضعيفة كما تم في الانتخابات البلدية السابقة التي شهدت أقل نسبة إقبال فتحصلت على المرتبة الأولى، فبالرغم من أن الحركة خسرت الكثير من قاعدتها الشعبية إلا أنها مازالت تضم حولها قاعدة من المناصرين لا يستهان بهم وتكبر شوكتهم في ضل نسبة مشاركة ضئيلة في الإنتخابات.
شارك رأيك