الدور الأول للرئاسية السابقة لأوانها التي أجريت في 15 سبتمبر 2019 كانت حدثا مهمّا غير مسبوق في تاريخ الحركة السياسية في تونس، فقد عكست تطورات جديدة في المجتمع تراكمت منذ عدّة سنوات، وكان لا بدّ أن تترجم نتائجها بشكل واضح اليأس السياسي الذي يستهلك أنفس الطبقة الوسطى و شبابها والنكسة التي يعيشها النظام السياسي.
بقلم العقيد (م) محسن بن عيسى *
وقد تكون نتائج هذه الانتخابات إخفاقا كبيرا للأحزاب ولنخبها وقادتها، الذين من المرجّح أن يكونوا الخاسر الأكبر فيها. لا أعتقد أنّنا أمام وجه من أوجه نضج المجتمع بل ربما أمام حالة من حالات الشعبوية الفاعلة ؟
إشكالية ضعف الثقافة السياسية والديمقراطية
عرفت البلاد منذ 2011 موجة من الاضطرابات شملت كل القطاعات و أثّرت بشكل مباشر أو غير مباشر في طبيعة العمل والمستوى المعيشي والعلاقات داخل المجتمع، و شكّلت الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها الحلقة الأخيرة في سلسلة هذه الأحداث التي هزّت قناعاتنا وأنظمة القيم لدينا.
لا شك أنّ الوضع القائم يمثّل تحدّيا غير مسبوق يضع الشعب من جديد أمام أفق مستقبلي صعب ومعقّد، حيث صراع الثروة والسلطة، وصعود الشعبوية، وتراجع الفكر السياسي.
ثماني سنوات مضت و البلاد تعيش حالة إنهاك و ضُعف إرادة دفعت بنسبة هامة من المواطنين نحو منابر وحلقات الاحتجاج الاجتماعي ضد السياق السياسي القائم.
لم يعد سرّا أننا نواجه وضعا شائكا أمام كثرة الأحزاب التي تبدو دون قواعد شعبية تُذكر وعاجزة عن القيام بدورها في تنمية الوعي السياسي والإسهام الفعلي في حسم الصراع مع ثالوث التخلف (الفقر والجهل والمرض)، بل حوّلت الأزمة الاجتماعية إلى أزمة سياسية.
لقد أعطت نتائج الانتخابات فكرة عن التغيير الذي عرفه “التشكّل الاجتماعي” لدينا عبر التنشئة الاجتماعية ومؤسساتها المختلفة (مؤسسات التعليم ومؤسسات الإعلام ومؤسسات المجتمع) وضعف دورها في غرس الثقافة السياسية والديمقراطية لدى الأفراد. الكل يتطلع إلى حياة أفضل ولكن الكثير لا يرون إمكانية استشعار طريق المستقبل مع الكيانات السياسية الحالية والنخبة الحاكمة.
لقد أبرز عزوف المواطنين عن الانتخابات ولجوء البعض منهم إلى التصويت العقابي مدى فشل الديمقراطية في غرس جذورها في ثقافة المجتمع وسيطرتها على نظام القيم. ويبدو أنّ العملية الانتخابية لم تتبلور بصورة صحيحة لدينا ولازالت في مراحلها الأولى للتحول الديمقراطي وقد نحتاج لسنين طوال لترسيخ ثقافتها والتفاعل مع مجمل قوانينها وأنظمتها.
لاشك أنّ غياب هذه الثقافة أو ضُعفها يسهم في انتشار حالة من الأمّية السياسية لدى فئات عريضة من المجتمع، وضعف الوعي السياسي لدى الشباب، والعزوف عن المشاركة السياسية، هذا فضلا عن أزمة الهوية التي تؤدّي إلى الاندفاع نحو الأفكار المتطرفة و الأفكار المستوردة. وطبيعي في ضوء ذلك أن تتراجع مستوى المسؤولية الاجتماعية ويضعف التماسك والتضامن بين أفراد وفئات المجتمع وتتقلّص درجة الانتماء والإخلاص للوطن وتعرّض الروح الوطنية إلى عوامل التآكل.
ويتحمّل القادة السياسيون الجزء الأكبر من مسؤولية الآثار السلبية لهذه الانتخابات، ويتحمّل المثقفون المتعصبون الجزء الآخر من المسؤولية وهو الجزء الذي يكون عادة ذا تأثير أعمق ونتائج أسوأ وأخطر على مستقبل الشعب في المدى الطويل.
لقد آن الأوان أن ننفض عن كواهلنا غبار السنوات العجاف ونسعى جاهدين لجسر الهوّة التي وُضعنا بها والنهوض من هذه الكبوة المزمنة.
صعود الشعبوية ومُمهّدات انهيار البناء السياسي
يكتسب المواطن قيمه وتوجهاته السياسية عن طريق قنوات عديدة رسمية وغير رسمية، بصورة مباشرة وغير مباشرة، لتسهم في تشكيل سلوكه السياسي. و يواجه المواطن لدينا تدفّقا للمعلومات بشأن قضايا عديدة أغلب خطاباتها شعبوية الهدف منها استسهال خداع المواطنين و إثارة مخاوفهم حول الهوية والوطن والدين والثقافة وإيهامهم بتوفر الحلول الناجعة لديهم.
الواقع أننا نعيش في تونس ارتدادات ظاهرة تكاد تكون عالمية تكتسح منذ سنوات الولايات المتحدة وأوروبا عن طريق أحزاب وحركات و برامج توظف بشكل مشبوه القضايا الإجتماعية في تَضاد تام مع الديمقراطية والمواطنة. وهي محاولات غوغائية للوصول إلى السلطة بفكر شبه فاشي جديد. إنها ظاهرة مُعدية لدول الجوار وخطيرة على استقرار أنظمة الحكم بها.
صحيح أنّ العوامل الاجتماعية والسياسية والإعلامية لدينا ساعدت على تسلّل هذه الظاهرة داخل مجتمعنا خاصة منذ 2011 لتجد لدى أصحاب الطموح السياسي من تبنّى استراتيجياتها التعبوية و خطاباتها القائمة على النقد وتحميل المسؤولية للنخب التقليدية واعتماد الاثارة والاستفزاز فيها. وصحيح أنّ التركيز فيها على الحاضر دون اعتبار الماضي والمستقبل هي مجرّد محاولة للإبحار في رمال متحركة دون بوصلة.
لقد عرف العالم تجارب عديدة حول التحرّك نحو الخلف من خلال الالتزام بإيديولوجيا سياسية-اجتماعية تدّعي ملكية الحقيقة دون سواها، أو بسبب التقدم نحو المستقبل بناء على رؤية تقوم على القناعة الراسخة بإمكانية التغلّب على معظم أو كل الصعاب التي تعترض طريقها، وإهمال دروس الماضي وعبره وحقائقه ومعضلاته ومسارات التحولات المجتمعية.
هناك مخاطر حقيقية قد تضع البلاد خارج السياق الاقليمي والدولي وتسلب الدولة وقادتها معظم ما كانت تتمتع به من قدرة على القيام بدور فاعل في برامج التعاون و قضايا الخلاف التي تعنيها، كما تجعلها عُرضة لتطورات وأحداث خارجة عن إدارتها تجعلها تابعة للغير وليس بإمكانها التأثير في مسارات التطورات الجارية.
علينا أن نتّفق وأن الشعبوية انتجت الفاشية والنازية في أوروبا والدكتاتورية المتسلطة في العالم العربي وتتبنى اليوم خطابا معاديا للنظام السياسي والاجتماعي القائم والنخب السياسية والثقافية.
أعتقد أنّ الموجات الجماهيرية في حاجة إلى إبعادها عن الايمان بالفكر التآمري والتعدّي عل القيم والأعراف وتوجيها نحو مستقبل تونس الذي يمكن اختزاله في حماية الدولة من التفكّك و ضمان حماية النمط الاجتماعي واستدامة خطة الاصلاح الاقتصادي، والدفاع عن هذه الخيارات الأساسية إلى جانب قيمنا ومصالحنا المشتركة على الساحة العربية و الدولية.
* ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك