شهدت المحطات الانتخابية السابقة تجاوزات انتخابية عديدة كالإشهار السياسي وتجاوز السقف المالي المحدّد للانتخابات لكن عموما لم تكن بالخطر الحقيقي على مصداقية العملية بأكملها، لكن هذه المرّة تكشّفت عديد الحقائق و الممارسات الخطيرة التي لا تمس فقط من مصداقية العملية الإنتخابية بل تمثل خطرا جذريا يهدّد مسار الانتقال الديمقراطي الفتي بتونس.
بقلم فيروز الشاذلي
ان الاستسهال مع هذه الظاهرة قد يؤدي بنا إلى المجهول والدخول في دوّامة صراعات على السلطة بالاستقواء بالأجنبي عن طريق تمويلات مالية يوفرها أصحاب المال الفاسد و المهربين الذين أصبحوا المنافسين الرئيسيين في الانتخابات.
ممارسات غير مسبوقة تهدّد مسار الانتقال الديمقراطي
لقد أصبح واضحا أننا دخلنا مرحلة خطيرة من الممارسات غير القانونية التي تضرب مباشرة مسار الانتقال الديمقراطي وتقوّضه بأساليب لم يفعلها حتى بن علي أيام الاستبداد و الحكم الدكتاتوري فالبعض أصبحت تحدثه نفسه بالوصول إلى قمة السلطة حتى بفتح المجال للتدخلات الخارجية في السياسة الداخلية عن طريق شركات للتعبئة و الضغط السياسي و الإعلامي لصالح طرف معين على حساب السيادة الوطنية.
هذا المنحى الخطير مثّل صدمة للتونسيين بعد الكشف عن تعاقد رئيس حزب “قلب تونس” نبيل القروي بتاريخ 19 أوت 2019 مع شركة علاقات عامة وتعبئة رأي كندية تحمل اسم “Dickens & Madson” ومقرها مونريال، والتي يملكها “إري بن ميناشي” الضابط السابق في جهاز الإستخبارات الإسرائيلي “الموساد” من أجل الحصول على الدعم في الانتخابات الرئاسية التونسية قيمته مليون دولار (حوالي 3 مليون دينار).
هذه الممارسات لم يتورط فيها نبيل القروي فقط فحسب الوثائق المنشورة من قبل وزارة العدل الأمريكية هناك أيضا حزب حركة النهضة و جمعية عيش تونسي التي لجأت إلى هذه الأساليب المعتمدة على توقيع عقود مع شركات متخصّصة في ما يعبر عنه “باللوبينغ” أي العمل على التعبئة و الضغط السياسي لصالح أطراف سياسية بما يعني فتح الساحة السياسية التونسية على مصراعيها أمام التدخلات السياسية الخارجية و استباحة السيادة الوطنية فيما يشبه تدجين الدولة التونسية لتصبح ما يشبه الدول الفاشلة التي تتحكم فيها القوى العالمية.
هذه التطورات الخطيرة تحيلنا مباشرة ودون تفكير إلى ضرورة التحقيق في مصادر التمويل الأجنبي لهذه الأطراف المذكورة في العقود المنشورة وعلاقة القائمين على هذه الأحزاب مع شبكات تبييض وغسل الأموال على الصعيد العالمي، كما يثير التساؤل حول قدرة أحزاب و أطراف معينة على كسب حسابات بالعملة الصعبة في البنوك العالمية المنتصبة بمناطق تصنف كجنّات ضريبية بينما تونس تغرق في الديون ونسبة تغطيتها لوارداتها بالعملة الصعبة وصلت إلى حد أقل من 90 يوم توريد بينما هذه الأطراف السياسية تتصرف في مليارات الدولارات بالخارج.
الخطر الداهم من هذه الممارسات المشينة لا تنعكس فقط على مصداقية الانتخابات الجارية ولكن الخطر الأكبر ما ستلقيه من ظلال قاتمة على مصير الانتقال الديمقراطي في تونس فإذا أراد حزب ما الفوز بالانتخابات مستقبلا فلا داعي للإحتكام للشعب الذي يقيّم الأحزاب بل يكفي الاستعانة بالقوى و التمويل الأجنبي مما يسقط نهائيا ثقة المواطن في العملية السياسية برمتها ويصنع حاجزا بين الشعب و السلطة السياسية القائمة يسهّل أي عملية إلتفاف على المسار الديمقراطي كالانقلابات أو الصراعات المزمنة التي تجعلنا في مرتبة ما بين الدولة و الا دولة.
قائمات تشريعية خاصة بالمهربين
فكرة التمتع بالحصانة البرلمانية إستئناسا بمن إستطاعوا في الدورة السابقة من التحصن وراء الأحزاب وصفتهم البرلمانية بالرغم من الشبوهات و القضايا المفتوحة ضدهم ظهرت هذه المرة من خلال عدد كبير من القائمات التشريعية التي يرأسها مهربون خاصة في المناطق الداخلية المعروفة بانتشار التجارة الموازية على نطاق واسع، من بين هؤلاء مهرب معروف بولاية القصرين لدى الأجهزة الأمنية خاصة الديوانية أنه من أكبر مهربي مادة النحاس بين الحدود يتزعم قائمة تشريعية في الجهة ترجع بالنظر لحزب صغير غير معروف وهو نفس الحال لعدة مهربين في عدة ولايات أخرى، فالمهربون أصبحوا في جانب كبير المموّل الرئيسي للقائمات الانتخابية مقابل توفير الحماية السياسية.
لنفس الهدف وهو البحث عن الحصانة التي تحميهم من الملاحقة القانونية هناك العديد من الملاحقين في قضايا تحيّل وفساد مالي وتبييض أموال قرّروا الترشح ضمن قوائم مستقلة وهذا ما يفسّر الارتفاع الكبير لعدد القوائم المترشحة التي وصلت إلى قرابة 1500 قائمة وهذه الفئة الثانية الباحثة عن الحصانة موجودة تقريبا في كافة ولايات الجمهورية، من بين هؤلاء رجال أعمال تحوم حولهم شبهات فساد متعلقة بصفقات عمومية و الاستيلاء على ملك الدولة الخاص و آخرين على أبواب الإفلاس يرجون الدخول في المجلس النيابي الجديد لتحسين وضعهم القانوني كحال أحد رؤساء القائمات المترشحة في ولاية القصرين الذي يعرفه القاصي و الداني بكثرة قضايا عدم خلاص الشيكات بدون رصيد ومصنعه على وشك الإقفال بسبب أزمته المالية الخانقة فاختار تكوين قائمة مستقلة عساه ينجح في حجز مقعد مع كبار السياسة يمكنه من التقرب من أصحاب القرار ليحل أزمته المالية الخانقة.
هذه الفئات الانتهازية أفقدت التنافس الانتخابي أي معنى راقي للديمقراطية من خلال استغلال أنماط حقيرة ووضيعة لاستقطاب المناصرين وهي المتسببة في الأحداث التي عرفتها بعض الجهات في الفترة الأخيرة وما أبرزته من عودة العروشية المفتعلة من قبل هذه العصابات في الأرياف والتجمعات السكنية الصغيرة.
معركة كسر عظام بين دولة القانون ودولة لوبيات المافيا
هذا التسابق من قبل المهربين وأصحاب القضايا المالية والجبائية هو في حقيقة الأمر إستباق للمرحلة المقبلة لأنهم يعرفون جيدا أن نظام الشفافية في تونس سوف يتعزّز خاصة بتقيّد الجهاز التنفيذي والرقابي التونسي بلوائح المنظمات الدولية كمجموعة العمل المالي للتصدي للفساد وغسيل الأموال، لذلك هناك إصرار من هذه الفئة الضالة على التموقع السياسي لأنها المعركة الأخيرة وستكون معركة كسر عظام بين مفهوم دولة القانون ودولة لوبيات المافيا.
لكن مع اشتداد هذه الحرب التي يقودها هؤلاء الفاسدون على العملية الإنتخابية و إفقادها من أي معنى ديمقراطي عبر توجيه المال السياسي الداخلي والخارجي و شراء أصوات الناخبين نحو مرشحين لتحقيق مصالح خاصة، جعل الكثير من التونسيين يتخوفون ويبدون قلقهم الشديد فبعد أن ظن غالبيتهم أن تونس قد شقّت طريقها بين الديمقراطيات العريقة يجدون أنفسهم أمام تقاطعات متباينة تحمل أكثر من تناقض بين طبيعة النظام الديمقراطي وممارسات فاشية للوبيات الفساد والتدخل الأجنبي في الحياة السياسية، مما يعطي صورة قاتمة عن مستقبل الانتقال الديمقراطي في تونس مقابل انحسار ثقة التونسي في المؤسسات المنوط بعهدتها حماية المسار الإنتخابي كالهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي ظهرت كمؤسسة عاجزة عن حماية مصداقية المسار الانتخابي بل تبدو ساعية إلى الدفاع عن مصالح مرشح على حساب اخر بتعلات واهية.
شارك رأيك