رئيس الجمهورية المنتخب قيس سعيد يستطيع (رغم محدودية الصلاحيات الدستورية) تحقيق الكثير على مستوى إكمال بناء المؤسسات الدستورية مع العمل على تفعيل سياسة محاربة الفساد تكريسا للإرادة الشعبية المطالبة بذلك، ليبقى أهم ملف سيمثل اختبارا حقيقيا له هو الدبلوماسية الاقتصادية التي راهن الكثير من خصومه على أنها ستكون نقطة ضعفه الكبيرة في الإشراف على السياسة الخارجية لتونس.
بقلم فيروز الشاذلي
لم يكن فوز قيس سعيّد بالدورة الثانية للانتخابات الرئاسية نتيجة غير متوقعة بل غير المتوقع هو الفوز الساحق بجميع المقاييس الانتخابية على منافسه نبيل القروي في جميع ولايات الجمهورية بنسبة وصلت حد 72% على المستوى الوطني فيما يشبه الإستفتاء الشعبي وبإقبال قياسي من الناخبين قارب 55% خاصة من قبل الشباب والمثقفين مما لم يدع أي فرصة للتقليل من حجم هذا الانتصار التاريخي من قبل الحملة المنافسة أو بعض القنوات الداعمة لنبيل القروي على غرار قناتي “نسمة” و “الحوار التونسي” حيث وجد بعض الإعلاميين العاملين في هذه القنوات أنفسهم خارج تاريخ السياق لشعب أراد تقرير مصيره بيده.
هذا الانتصار التاريخي الذي انعكس احتفالات شعبية غير مسبوقة بعدة جهات هو في الواقع ترجمة لعدة آمال وانتظارات بناها أغلبية الشعب التونسي الذي صوّت بكثافة لصالح هذا المرشح عساه يستطيع أن ينسيه ما ذاقه من تدهور وتلاشي لسلطة القانون وتغوّل مافيات الفساد التي إخترقت هياكل الدولة وغياب مفهوم العدالة الاجتماعية مما انجر عنه تعميق آثار الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها تونس خاصة على الطبقة الوسطى.
هذه الآمال و الانتظارات الإيجابية يجب كذلك عدم المغالاة فيها وإنزالها في إطارها الصحيح فالرجل لا يملك عصى سحرية بحكم عدة عوامل داخلية وخارجية ضاغطة على الوضع الاقتصادي بالذات مع وجود كم هائل من المشاكل التي لم تستثني تقريبا أي قطاع أو مؤسسة.
إنتظارات كبيرة لشعب يريد تغيير واقعه التعيس
كثير هو ما ينتظره التونسيون من العهدة الرئاسية الجديد بقيادة قيس سعيّد، ورغم أن آمال الفئات والشرائح الاجتماعية ليست متطابقة وكل يأمل من العهد الجديد ما يريحه أو يعوّل عليه ورغم أن الواقعية تفرض الحذر في إطلاق العنان للآمال الكبيرة، خاصة وأن رئيس الجمهورية لم يعد هو من يمسك بزمام السلطة التنفيذية بمقتضى دستور 2014 بعدما انتقلت أغلبية الصلاحيات إلى رئيس الحكومة، لكن رغم ذلك نجد أن هناك من الصلاحيات ما هو مستمر بيد الرئيس ويمكّنه من أن يحوّل الآمال والوعود إلى حقيقة واقعة مستفيدا من المساندة الشعبية الكبيرة و بفوز غير مسبوق منذ 2011.
الشباب و الفئات المثقفة التي أوصلت قيس سعيّد كانت تصوّت للصفات الشخصيّة التي يتميز بها بحكم إدراكها أن هذه الصفات أهم من الوعود والبرامج الفضفاضة فنحن أمام منصب مهامه محدّدة تقابلها صفات معيّنة تؤدي حتما إلى شخص محدد ينتظرون منه الانتقال بالسلطة في تونس من مجموعة أحزاب حاكمة إلى منظومة مؤسسات القانون التي تحكم وتتعاون وفقا للدستور والقانون، وهذا هو جوهر الإصلاح والتغيير الذي رفعه قيس سعيّد منذ سنة 2011 وليس في الحملة الإنتخابية فقط، وهذا الأمر ليس مستحيلا ويكفي أن يعمل بقسمه أمام البرلمان للمحافظة على الدستور وذلك بإكمال تنصيب بقية المؤسسات الدستورية خاصة المحكمة الدستورية والعمل على مطالبة كل مؤسسة دستورية القيام بما عليها من واجبات والامتناع عن إهمال أو تخطي النصوص المنظمة لعملها.
في نفس سياق حماية الدولة تعوّل هذه الجحافل التي تدفّقت على مراكز الاقتراع يوم الأحد الفارط على إستئناف الحرب على الفساد بكل قوة ضد جميع اللوبيات دون تمييز أو توفير حصانة سياسية، لهذا تم الإختيار على شخص من خارج الأطر الحزبية التقليدية لأنه بكل صراحة تبيّن أن الفساد أصبح ظاهرة مخترقة لجميع الأحزاب تقريبا.
لهذا هناك آمال كبيرة على نظافة سيرة الرجل وحياده على المنظومة السياسية المتعفّنة للعب دور كبير خاصة من خلال دعم المؤسسات المتداخلة في هذه الحرب كضمان إستقلالية المجلس الأعلى للقضاء لأنه لا تستقيم محاربة الفساد دون جهاز قضائي فعّال ومستقل عن أي شكل من أشكال التدخلات و الضغوطات السياسية.
صلاحيات محدودة تحد من فاعلية الرئيس الجديد
صحيح أن السيد قيس سعيّد سوف يعتلي كرسي الرئاسة بقصر قرطاج بكل جدارة بحكم التأييد الشعبي وتحصله على نسبة عالية من التصويت مما يجعله يستغني إلى حد ما عن الحاضنة الحزبية بحكم وجود دعامة شعبية جارفة وراءه، لكن هذا الدعم الشعبي الكبير يمثل في نفس الوقت سلاحا ذي حدين بحكم أن هذا الدعم الشعبي وراءه انتظارات كبرى لتحقيقها من قبل الرئيس الجديد الذي سيجد نفسه أمام مجموعة مطالب لتحقيقها دون أن تكون له الصلاحيات الكافية لتنفيذها، ففي الواقع الأمور الحياتية المربوطة بمعيشة المواطن وتحسين ظروفه الاجتماعية والاقتصادية من صلاحيات رئيس الحكومة حسب الدستور بينما صلاحيات رئيس الدولة هي صلاحيات محدودة تتركز أساسا على السياسة الدفاعية والشؤون الخارجية.
هذه الصلاحيات المحدودة ستجعل الرئيس رهين التوافق مع باقي مؤسسات الحكم كالبرلمان و رئاسة الحكومة الخاضعين لسيطرة الأحزاب وأجندتهم الخاصة بهم وأبرز مثال على ذلك هي المقترحات التي ذكرها قيس سعيّد أثناء الحملة الانتخابية كالنهوض بالصحة و التعليم وهي أمور تتطلب أولا موافقة الأحزاب المكونة للبرلمان القادم على هذه المبادرات التشريعية وعدم إسقاطها، كما تتطلب كذلك التنسيق مع الحكومة التي يعهد لها بتنظيم هذه القطاعات، وهذا يذكرنا بالسنة الأخيرة للرئيس الراحل الباجي قائد السبسي الذي فرضت عليه العزلة السياسية بقرطاج بسبب اختلافه مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد وعدم وجود كتل نيابية وازنة تسنده بعد انهيار كتلة نداء تونس وتشتّتها.
واقع صعب ومعقّد ينتظر الرئيس الجديد
هذا الواقع الصعب هو وليد تراكمات معقدة على المستوى الداخلي والخارجي تولّد عنها مشاكل مزمنة تتطلب مجهودات كبرى ووقت كاف لتجاوزها نتيجة استفحال هذه المظاهر السلبية كالفساد وغياب العدالة الاجتماعية منذ ثورة 2011، فظهور النتائج الإيجابية لأي فترة حكم مربوطة أساسا بتحسن الوضع الاقتصادي للبلاد ولكن للأسف المعطى الخارجي غير مساعد بحكم ارتباط أهم قطاعين في تونس وهما السياحة والتصدير بالوضع العالمي الذي يتسم باستفحال الأزمة الاقتصادية العالمية نتيجة الموجة الجديدة من الحروب التجارية وتعرض أهم شريك تونسي في التجارة الخارجية وهو الإتحاد الأوروبي إلى أزمة اقتصادية بسبب عدم التوصل لحل لخروج بريطانيا من الإتحاد.
هذه الأزمة العالمية مازالت ستأثر سلبا على نسق صادراتنا في السنوات القليلة القادمة كما أن هذه الأزمة أثرت في حد ذاتها على السياحة التي شهدت تراجعا كبيرا مما يشير بوضوح إلى أن قطاع السياحة التونسية لن يشهد بالضرورة انتعاشة مؤكدة على المدى القريب.
بصفة عامة رئيس الجمهورية المنتخب ورغم محدودية الصلاحيات الدستورية فهو يستطيع تحقيق الكثير في نطاق ذلك خاصة على مستوى إكمال بناء المؤسسات الدستورية وهو المتضلّع في القانون الدستوري مع العمل على تفعيل سياسة محاربة الفساد تكريسا للإرادة الشعبية المطالبة بذلك، ليبقى أهم ملف سيمثل اختبارا حقيقيا للسيد قيس سعيّد وهو الدبلوماسية الاقتصادية التي راهن الكثير من خصومه على أنها ستكون نقطة ضعفه الكبيرة في الإشراف على السياسة الخارجية لتونس.
شارك رأيك