ستمثل الخمس سنوات القادمة الفرصة الأخيرة لحركة النهضة لمراجعة أولوياتها وتغيير سياستها في اتجاه تلبية المتطلبات الشعبية وعدم المساكنة مع قضايا يراها الشارع التونسي مصيرية كمكافحة الفساد وانهيار الوضع الاقتصادي الذي يزداد تدهورا بل أصبح يمثل كابوسا بالنسبة للطبقة الوسطى التي تآكلت بصفة غير مسبوقة وأثّرت سلبيا على النسيج الاجتماعي التونسي نتيجة الارتهان إلى املاءات صندوق النقد الدولي و إهمال العدالة الاجتماعية.
بقلم فيروز الشاذلي
لا شك أن حزب حركة النهضة هو الحزب الوحيد الذي استطاع النجاة بأخف الأضرار من موجة التصويت العقابي في الانتخابات التشريعية ضد الأحزاب الحاكمة خلال الفترة السابقة ضمن مفهوم التوافق السياسي. حيث أن هذه الموجة العقابية كانت كاسحة بالنسبة للعديد من الأحزاب المنبثقة عن نداء تونس التاريخي الذي كسب انتخابات سنة 2014 كتحيا تونس، مشروع تونس، بني وطني، حزب الأمل …، بل شملت هذه الموجة العقابية التي درج على تسميتها بالتصويت “ضد السيستام” أو “اللطخة السياسية” كذلك أحزاب المعارضة خاصة الجبهة الشعبية باعتبارها فرعا من المشهد السياسي في البرلمان السابق الذي عجز عن مجاراة طموحات ومتطلبات التونسيين.
نجاح انتخابي لا يرتقي إلى انتصار سياسي
وسط هذه الخسائر بالجملة للأحزاب التقليدية التي كانت تؤثث المشهد السياسي التونسي كانت النهضة الحزب الوحيد الذي إستطاع تحقيق نتيجة انتخابية متقدمة على جميع الأحزاب حتى تلك التي أعتبرت “ضد السيستام” كقلب تونس وائتلاف الكرامة.
في هذا الصدد لا نستطيع أن نقلّل من هذا الانتصار الانتخابي لحركة النهضة التي تحصلت على المرتبة الأولى بالرغم من صعوبات الحكم في السنوات السابقة التي تؤثر سلبيا على شعبية أي حزب حاكم وهو دليل على استحواذ الحركة على جزء لا بأس به من الناخبين بالرغم من كل شيء.
لكن، من جهة أخرى، إذا تعمقنا في التحليل السياسي لهذه النتيجة الانتخابية لحزب حركة النهضة نرى بكل وضوح وموضوعية أن هذا الانتصار الانتخابي لم يرتقي إلى مستوى الانتصار السياسي كالذي سجلته الحركة في انتخابات المجلس التأسيس سنة 2011 أو فوز نداء تونس في الانتخابات التشريعية سنة 2014، فحركة النهضة تحصلت على المرتبة الأولى بواقع 52 مقعدا فقط بتأييد قرابة 400 ألف ناخب بعد أن كانت تحصلت سنة 2011 على 89 مقعدا بدعم من قرابة مليون و 40 ألف ناخب فحتى الانتخابات التي خسرتها الحركة سنة 2014 تحصلت على مقاعد تتجاوز بكثير حصيلة انتخابات هذه السنة، فرغم أنها جاءت ثانيا بعد حزب نداء تونس فقد تحصلت على 69 مقعدا.
هذا المسار من الانحدار في أعداد المؤيدين للاختيارات السياسية للحركة جعل الحركة في لبس من إعلان صريح لانتصار سياسي محقق بل جعلها في موقع أحسن النتائج السيئة للأحزاب، ففي النهاية، التأييد الشعبي للحركة تقلّص من قرابة مليون و400 ألف ناخب إلى 400 ألف ناخب فقط في ظرف ثمانية سنوات، مما ألقى بظلال الشك على فرحة أنصار الحركة بانتصار حزبهم بالمرتبة الأولى، فالأكيد أن هذه النتيجة ستجعل القيادات المشرفة على تسيير الحزب سواء المنتمين للمجلس التنفيذي أو مجلس شورى النهضة تراجع حساباتها السياسية للمرحلة المقبلة وستؤثر على خياراتها الحكومية.
الخوف من الفشل السياسي
الفوز الانتخابي الباهت لحزب حركة النهضة سوف يضغط سلبيا في المدة القادمة على مواقفه ويجعله في عدم أريحية كاملة خاصة أنها تحتاج إلى 57 مقعد آخر لتضمن تكوين حكومة لديها أغلبية برلمانية، فتحصل الحركة على مقاعد ضئيلة نسبيا يجعلها رهينة موافقة الأحزاب الأخرى للحصول على العدد الكافي من أصوات النواب المساندين وهو ما يجعل الحركة في مفاوضات صعبة مع أحزاب في غالبها متناقضة في تصورها للمرحلة المقبلة كائتلاف الكرامة وتحيا تونس وأحزاب أخرى عبرت صراحة على أن حزب حركة النهضة ليس في وارد التفاوض من موقع قوة بل نتيجته الانتخابية تجعله يفاوض من مبدأ التنازل للحصول على رضى هذه الأحزاب، وهو ما كان واضحا في موقفي التيار الديمقراطي الذي طالب بتنازلات كبرى من حركة النهضة للدخول في الحكومة القادمة ليس أقلّها الحصول على حقيبتي الداخلية والعدل إضافة إلى وزارة الإصلاح الإداري مع الدعوة لتعيين رئيس حكومة من خارج حركة النهضة، بينما حزب حركة الشعب ذهب إلى أبعد من ذلك فطالب بإسناد رئاسة الحكومة إلى مرشحه السابق لرئاسة الجمهورية الصافي سعيد إن أرادت النهضة دخول الحزب في الائتلاف الحكومي القادم.
هذه المؤشرات كلها تؤكد وجود مخاوف جدية لدى الحركة من فشل سياسي قد يكون كارثيا على مستقبلها السياسي، فهذا الخوف يبرز الآن وبكل وضوح من احتمالات الفشل في تكوين الحكومة العتيدة لصعوبة التأليف بين الأحزاب التي تم ذكرها سابقا لاختلاف مرجعياتها السياسية، إضافة إلى أن هذه الأحزاب ترى نفسها في ندية واضحة مع حزب حركة النهضة لأن هذه الأخيرة في حاجة إليها، وكذلك هذه الأحزاب تريد مناصب سيادية تترجم حصيلتها الانتخابية و باعتبار تقارب أحجام هذه الأحزاب في البرلمان وعدم وجود تفوق واضح لحزب معين فالمفاوضات ستكون عسيرة و إذا أضفنا لها ضعف كتلة النهضة مقارنة ببرلمان يضم 217 عضو فالأكيد أن المفاوضات ستكون مضنية وطويلة وربما نجد أنفسنا بدون حكومة حسب الآجال الدستورية مما يثير مخاوف من فشل سياسي كبير لحركة النهضة في تكوين الحكومة وهو ما يستدعي شبح إعادة الانتخابات.
المرحلة القادمة ليست بالسهلة بالنسبة لحركة النهضة فهي ستكون في جميع الأحوال حتى لو تم تكوين حكومة برئاسة شخصية نهضاوية في خوف دائم من الفشل السياسي لأن هذه الحكومة لو تكوّنت أصلا ستكون تحت رحمة الأحزاب المشاركة التي تستطيع سحب الثقة منها متى شاءت وهو ما يضع حزب حركة النهضة في وضعية المسؤول الأول عن النتائج التي تسجلها الحكومة القادمة ولكن في نفس الوقت ليس هو من يتحكم في دواليب الحكومة.
الفرصة الأخيرة
ستمثل فترة السنوات الخمسة القادمة بالتأكيد الفرصة الأخيرة لحركة النهضة لمراجعة أولوياتها وتغيير سياستها في اتجاه تلبية المتطلبات الشعبية وعدم المساكنة مع قضايا يراها الشارع التونسي مصيرية كمكافحة الفساد و انهيار الوضع الاقتصادي الذي يزداد تدهورا وأصبح يمثل كابوسا بالنسبة للطبقة الوسطى التي تآكلت بصفة غير مسبوقة و أثّرت سلبيا على النسيج الاجتماعي التونسي نتيجة الارتهان إلى إملاءات صندوق النقد الدولي و إهمال العدالة الاجتماعية.
شارك رأيك