ما من شك في أن الحزب الدستوري الحرّ أصبح يشكّل عنصرا مهمّا في المشهد السياسي بعد فوزه في الانتخابات التشريعية لسنة 2019 وحصوله على كتلة معتبرة (17 مقعدا) سوف يكون لها شأن في مجلس نوّاب الشعب. إن هذا الفوز وإن كان منتظرا لم يكن بالهيّن في ظلّ الظروف السياسية العصيبة التي تعيشها البلاد بعد أحداث جانفي 2011.
بقلم الأسعد بوعزي *
ولعلّه من حسن مشيئة الأقدار أن يبرز هذا الحزب في الظرف الذي شهد اندثار أهمّ الأحزاب التقدّمية، الوسطية منها واليسارية، وصعود الى سدّة الحكم أحزاب وائتلافات متطرفة تسعى إلى تغيير نمط عيش التونسيين ومعادية للنظام الجمهوري، وهو ما يجعل منه طائر الفينيق الذي بُعث من رماده للإبقاء على أمل التونسيين في استرجاع الدولة الوطنية بعدما تمكّنت منها القوى الرجعية بحكم ديمقراطية زائفة تقوم على المال الفاسد والمتاجرة بالدين والترهيب والترغيب.
اليوم وقد أصبحت دولة الإستقلال مهدّدة أكثر من أيّ وقت مضى بعدما وضع الإسلام السياسي وقُوى التطرّف أيديهم على مجلس نوّاب الشعب والحكومة فيما انتصبت بقصر قرطاج قوّة أخرى تحمل شعار “الشعب يريد” وتسعى الى إضعاف الحكم المركزي لمصلحة المجالس المحلّية فإن الحزب الدستوري الحر أصبح الحارس الذي من واجبه أن يواصل الليل بالنهار حتّى لا يسقط المعبد.
بعد التذكير بظروف نشأة الحزب الدستوري الحرّ وبأبرز العراقيل التي تعرض إليها منذ تأسيسه، سوف نتناول بالدرس أهمّ التدابير الواجب اتخاذها من أجل أن ينجح هذا الحزب في لعب دور المعارضة البناءة وضمان مزيد الإشعاع والتألّق.
1) نشأة الحزب الدستوري الحرّ:
نشأ الحزب الدستوري الحرّ على إثر مؤتمر الثبات الذي انعقد بتونس يوم 13 أوت (ذكرى عيد المرأة التونسية) 2016 ليخلف حزب الحركة الدستورية الذي أسّسه السيد حامد القروي سنة 2013. والحزب الدستوري الحرّ يعتبر نفسه امتدادا للتجمّع الدستوري الديمقراطي ومن قبله الحزب الحرّ الدستوري (باعث دولة الاستقلال) الذي يستمدّ منه إرثه واسمه ورمزه وشعاره ومبادئه وسوف يحتفل بمائوية تأسيسه بحلول سنة 2020.
ولعلّه من حسن الصّدفة أن تأتي نشأة هذا الحزب في السنة التي شهدت تغيير حكومة الحبيب الصّيد بعد إعلان فشلها في إخراج تونس من أزمتها وفي مرحلة التوافق بين النهضة والنداء وهو توافق أصاب الغالبية العظمى من الشعب التونسي بالإحباط لِما رأت فيه من انقلاب السيّد الباجي قائد السّبسي على ناخبيه وهو ما جعل العديد من التونسيين يتعاطفون مع الحزب الدستوري الحرّ ممثّلا في رئيسته عبير موسي.
هذا التعاطف ما كان له أن يكون لولا مناداة هذا الحزب بإعادة بناء الدولة الوطنية وتمسّكه بثوابت دولة الاستقلال وهو تعاطف تسبب للحزب وبالخصوص لرئيسته في العديد من العراقيل من طرف الخصوم السياسيين:
- هرسلة الأستاذة عبير موسي قضائيّا (سنة 2018) عبر تهم تتعلّق بالتهرّب الضريبي من أجل تركيعها وإحباط عزيمتها وثنيها عن مواصلة مسيرتها غير أن هذه الهرسلة لم يكن لها أيّ تأثير على شخصية هذه المرأة التي تتمتّع بإرادة صلبة وعُرفت بثباتها ورباطة جأشها وقوّة عزيمتها مثلما عبّرت عنه في إحدى تدويناتها بقولها: “سأواصل مواجهة المحاكمات الجائرة وتحمّل الضربات تحت الحزام من أشباه الرجال. سوف لن أركع ولن أخذل الحزب الدستوري الحر”.
- محاصرتها إعلاميّا ونصب الشّراك لها من طرف محاوريها (كلّما تمّت استضافتها) من أجل تقزيمها وتحقيرها والتهجّم عليها لغاية استفزازها غير أن هذه المحاولات اليائسة كانت نتائجها عكسية إذ رفّعت من شأن هذه السيّدة بإبراز كفاءتها ورحابة صدرها وحذقها لفنون الحوار وتمكّنها من ملفّاتها.
- بثّ الإشاعات المغرضة من أجل الحدّ من إشعاعها مثل تلك التي تتعلق بمزاعم رفضها الحضور في جنازة الرئيس الراحل قائد السبسي وموقفها من المساواة في الميراث أو ما نسب لها زورا وبهتانا حول ارتهان الرئيس السابق من طرف المؤسسة العسكرية.
- محاصرتها ميدانيّا لمنعها من التعريف بحزبها لدى الجماهير والاعتداء عليها وعلى المناضلين المرافقين لها بمناسبة تدشين بعض مقرّات الحزب على غرار ما تمّ بسيدي بوزيد وبئر علي بن خليفة.
- محاولة اختراق قيادة الحزب عبر زرع بعض الوجوه التجمّعية والدستورية المناوئة والمحسوبة على أطراف بعينها وهي محاولات باءت كلها بالفشل نتيجة التحصّن ببعض التدابير الوقائية وملازمة الحيطة والحذر.
وبالرّغم من كلّ هذه العراقيل فإن الحزب حقّق فوزا هامّا في الانتخابات التشريعية بحصوله على كتلة من سبعة عشر مقعدا وكان من المنتظر أن تكون النتائج أفضل بكثير لولا الموت المفاجئ للرئيس قائد السبسي.
إن وفاة الرئيس السابق مع قرب الانتخابات التشريعية وفي وقت كانت فيه كلّ المؤشرات ونتائج سبر الآراء تعطي أسبقية معتبرة للحزب الدستوري الحر قلب الموازين وقلّص من حظوظ الحزب وفورته.
إن ظهور السيد عبد الكريم الزبيدي وهو رجل غير مسيّس وتقديمه على أنه المنقذ والمؤتمن على وصيّة الرئيس الراحل والجامع والمرشّح الأفضل والأوفر حظّا ودعوة كل القوى الوسطية والتقدّمية الى مساندته والالتفاف حوله قلّل من فورة التعاطف مع الأستاذة موسي التي تمّت شيطنتها بدعوى رفضها التخلّي عن ترشحها للانتخابات الرئاسية لصالح السيد الزبيدي. إن تلك الحملة الإعلامية المسعورة التي استهدفت السيّدة موسي كان لها وقع سلبيّ على حظوظ الحزب في الانتخابات التشريعية إذ يبدو أن الكثير من المتعاطفين مع الحزب الدستوري الحرّ والذين خيّروا مساندة السيد الزبيدي لم يصوّتوا لمصلحة الحزب.
لا شكّ أن تقييم قرار الحزب بتقديم مترشح عنه في الانتخابات الرئاسية سوف يبرز ان الخيار كان صائبا وموفّقا ويبيّن أن الحملة التي قادتها الأستاذة موسي في الانتخابات الرّئاسية كان لها الوقع الإيجابي على الانتخابات التشريعية إذ أن النتائج كان من الممكن أن تكون أسوأ بكثير على غرار تلك التي سجّلتها الأحزاب التي انسحب مرشحوها لفائدة الزبيدي في الانتخابات الرئاسية.
الآن وقد نجح الحزب في تخطّي كلّ العقبات وفرض نفسه على الساحة السياسية، لا بدّ من بذل المزيد من الجهد للمحافظة عليه ورعايته حتّى ينمو في هذا المحيط السياسي المتعفّن الذي يطغى عليه السلوك العدائي والكراهية وحتّى يكون مع موعد مع الاستحقاقات الانتخابية القادمة خاصّة وأن حظوظه تبدو واعدة بعد اندثار وتفكّك أهمّ الأحزاب السياسية الوسطية والتقدّمية.
وقصد بلوغ هذه الغاية وضمان أوفر حظوظ النجاح، لا بدّ من بذل كثير من الجهد والمرور عبر عديد المحطّات وهو ما يحتّم توخّي التمشّي التّالي:
2) التقييم الذّاتي:
مع بداية العهدة النيابية الجديدة وحتّى ينطلق الحزب في الاتجاه الصحيح ويكون البناء على أسس صلبة لا بدّ من تقييم ذاتي على ضوء نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة:
الحملة الإنتخابية: تعتبر خير مجسّ لتقييم العمل الحزبي لكونها يتمّ الإعداد لها على عدّة سنوات وهو ما من شأنه أن يعكس مدى نجاعة الحزب من حيث هيكلته وحنكة قيادته:
البرنامج الانتخابي: يعتبر من أهمّ العناصر التي تستهوي الناخب وتؤثر على قراره لمساندة حزب دون سواه وقد يكون حاسما متى اقترن بصدق وكفاءة قيادة الحزب. ويعتبر برنامج الحزب الدستوري الحر من أفضل البرامج المطروحة وأكثرها نجاعة لإخراج البلاد من أزمتها غير أنه لم يتم التعريف به بما فيه الكفاية ليتلقاه المواطن. ويعود هذا الخلل بالأساس الى التعتيم الذي فرضته وسائل الإعلام على أنشطة الحزب وإلى بعض الهنات الخصوصية التي قد تستدعي التعجيل باتّخاذ بعض الإجراءات لعلّ من أكمّها بعث بوّابة للحزب (site web).
نتائج الانتخابات حسب الجهات : لقد أفرزت نتائج الانتخابات عدم حصول الحزب على مقاعد بعديد الدوائر الانتخابية بالولايات الداخلية وقد تُفسّر هذه الحصيلة بأحد الأسباب التالية أو بكلّها مجتمعة:
أ) تركيز العمل الميداني في جهات بعينها بحكم العامل الزمني وقلّة الجهد اللّوجستي إذ يصعب على حزب في طور الانبعاث وبإمكانيات محدودة أن يغطّي كامل الجمهورية. لا شكّ أن قادم الأيّام سوف يشهد تركيز الجهد على المناطق الداخلية بما يعكس سياسة الحزب التي تولي أهمية كبرى لتلك المناطق.
ب) عدم إشعاع بعض الجامعات على جهاتها وهو أمر إذا ما تمّ لا بدّ من تلافيه وتداركه بتعيين رجالات أكفّاء ومخلصين للحزب ويتمتعون بالمصداقية ولهم قبول في جهاتهم.
ت) إخفاق بعض رؤساء القائمات في إدارة حملتهم الانتخابية وعدم قدرتهم على إقناع الناخب لأسباب قد تتعلّق بالكفاءة والنظافة والمصداقية ونكران الذّات والقدرة على التواصل وغيرها من العناصر الواجب مراعاتها واعتمادها لضبط القائمات الانتخابية.
نتائج الإنتخابات حسب الفئة العمرية: لقد بيّنت هذه النتائج أن أبرز فئة صوّتت لصالح الحزب الدستوري الحر هي فئة الكهول والمسنّين وهي الفئة التي عاصرت بورقيبة باني دولة الاستقلال وتشبعت بأفكاره. من أهمّ العبر الواجب استخلاصها من هذه الظاهرة والعمل بها مستقبلا هي التركيز على الشباب الذي يجهل كلّ شيء عن تاريخ الحركة الوطنية وعن الفكر البورقيبي الذي تمّ التعتيم عليه في عهد بن علي وطمسه تماما منذ 14 جانفي 2011.
ولتدارك هذا الأمر وترغيب الشباب في الانضمام الى الحزب (إذ لا مستقبل لكلّ كيان بدونه) وجب التفكير في بعض الطرق والسياسات التي تستهوي الشباب وتلاقي اهتماماته منها إحياء الشبيبة الدستورية كفضاء يمارس فيه الشباب وخاصة الفئة الطلاّبية النشاط السياسي وتنظيم بعض الأنشطة مثل المصائف ونوادي التفكير والملتقيات الشبابية التي يتمّ تأطيرها من طرف الحزب وتتعلق بمواضيع يختارها الشباب حسب اهتماماته وميولاته.
هذا ويبقى من أوكد أولويات هذا الحزب أن يسعى الى مراجعة برامج التعليم وتعصيرها وتطعيمها بدروس تتعلق بتاريخ الحركة الوطنية وأخرى تتعلق بالتربية المدنية وبحقوق الإنسان والفلسفة وذلك حسب خطّة يتمّ ضبطها من طرف المختصين وتُنفّذ على طول مرحلة كاملة من التعليم.
3) ما يستوجب فعله لضمان النجاح:
بلورة سياسة الحزب للخماسية المقبلة: على ضوء نتائج التقييم الذاتي واستنادا على الأهداف المرسومة، لعلّه يكون من المفيد أن يبادر الحزب منذ الآن ببلورة سياسته المستقبلية أو تعديلها ضمن وثيقة مرجعية يتمّ الرجوع لها والعمل بمقتضاها خلال المرحلة المقبلة. تنبثق عن هذه الوثيقة المرجعية وثيقة توجيهية عامّة وقد تتضمن بعض النقاط الخصوصية يتمّ وضعها على ذمّة الجامعات للتقيّد بها وتطبيقها ضمن جدول زمنيّ يتمّ ضبطه بتنسيق مع الجامعة المعنية.
المراجعة الهيكلية للحزب على ضوء المتغيرات والمستجدّات: لا شكّ أن المستجدّات الأخيرة وخاصّة منها دخول الحزب مجلس نوّاب الشعب وتكوينه كتلة من المنتظر ان تلعب دورا رئيسيّا في المعارضة سوف يكون له تأثير على التفرّغ الحزبي لبعض القادة ممّن أصبحوا نوّابا في هذا المجلس. وهنا لا بدّ من الحذر كي لا تصبح الكتلة بمثابة الحزب ولا بدّ من أخذ العبرة ممّا وقع فيه نداء تونس من خطإ جسيم. وفي هذا الإطار فإن المصلحة العليا للحزب تقتضي مراجعة (ولو طفيفة) لهيكلة الحزب بما يسمح له باستمرارية العمل في جوّ مريح وفي انسجام تامّ بين كلّ مكوّناته. وفي هذا الاتجاه، لعلّه من المجدي أن يتمّ التفكير في إحداث خطّة ناطق رسمي باسم الحزب وتنسيقية عامّة تتولّى التنسيق بين الجامعات.
التمويل ومراكز المساعدة على أخذ القرار: لا شكّ أن نجاح كلّ حزب يتطلّب توفّر الحدّ الأدنى من التمويل ومراكز تعنى بالبحوث والاستشراف لمساعدة القيادة على أخذ القرار. وفي هذا المجال، سوف يكون من المفيد مراجعة هيكلة مركز الدراسات الإستراتيجية والتوثيق ليصبح مركزا للباحثين وخزّانا للأفكار (think tank). أمّا ما يتعلّق بالتمويل، فإن الأمر يبقى موكولا لأهل الإختصاص للتفكير في بعض السبل والتركيز بالخصوص على الوسائل الذّاتية للمحافظة على استقلالية الحزب.
الإعلام واستغلال الأنترنت: إن الانتخابات الأخيرة أبرزت بما لا يدع مجالا للشكّ الدور الهام الذي يلعبه الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في توجيه الشباب وتجميعه حول فكرة أو شعار حملة انتخابية. وحتى يتمكّن الحزب الدستوري الحر من مواكبة عصر التكنولوجيا الرقمية، أصبح من الضروري أن يفكّر في بعث خلية للإعلامية وبلورة سياسة اتصال قادرة على تبليغ خطابه السياسي الى الشباب واستهدافه عبر منابر وحوارات وملتقيات تتمّ كلّها بستعمال الأنترنت.
4) بعض المقترحات:
المعارضة البنّاءة : إن نجاح الحزب الدستوري الحر داخل مجلس نوّاب الشعب يتوقّف على لعب دور المعارضة البنّاءة وأخذ قراراته وفق ما تقتضيه المصلحة العليا للبلاد. علينا ألاّ ننسى أن من أهمّ الأسباب التي قادت الجبهة الشعبية الى التفكّك والاندثار هي استماتتها في لعب دور المعارضة السلبية.
-إحياء التحالفات مع المنظمات الوطنية : إن المشهد السياسي الذي أفرزته الانتخابات التشريعية أصبح يحتّم على المنظمات الوطنية أن تتحالف مع الحزب الدستوري الحرّ من أجل المحافظة على مقوّمات الدولة الوطنية.لا شكّ أن الإتحاد التونسي للشغل الذي أصبح مستهدفا من طرف القوى المتطرفة والذي تربطه علاقة تاريخية بالحزب الحرّ الدستوري سوف يكون له دور بارز في مساندة هذا الحزب ذو المرجعية البورقيبية.
إن بروز الحزب الدستوري الحرّ على الساحة السياسية في الوقت الذي شهد تفكّك المنظومة القديمة واندثار أهمّ الأحزاب التقدمية يمثّل الأمل الوحيد في المحافظة على دولة الاستقلال. على هذا الحزب ان يعي أنّ أعداء المعبد كثّر وقد قدموا بمعاولهم ومن واجبه بوصفه الحارس الأوحد أن يعدّ العدّة ويلازم الحيطة واليقظة حتّى لا يسقط المعبد.
* ضابط بحرية متقاعد.
شارك رأيك