هناك في تونس اليوم انقسام كبير في المشهد السياسي واختلاف في المواقف حول تشكيل الحكومة القادمة. ولاشك أنه لا بديل من النخب والأحزاب في الديمقراطية التعددية ولكن الرهان مجدّدا على الأحزاب التي مارست الحكم في المرحلة السابقة هو رهان خاطئ، وأنّ العمل السياسي مع جهات لا تمت بصلة إلى الخبرة السياسية هو عمل مبتور أكدته التجارب الماضية.
بقلم العقيد (م) محسن بن عيسى *
يّقال أنّ السياسة ليست مجرّد نصوص وأشكال ثابتة، فهي تختلف من مكان إلى آخر ومن مرحلة إلى أخرى، ومن أساسيات جوهرها الديمقراطي الحق في اختيار شكل النظام ورموزه و خصوصا الحق في تعديله أو تغييره. ويبدو أنّ التغيير القادم والناجم عن نتائج الانتخابات يتّجه إلى أن يكون شاملا لا يقف عند النخبة وإنما يتجه إلى المجتمع كله.
مسار الأحداث
دخلت البلاد بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة مرحلة جديدة حاملة معها تساؤلات وتحدّيات. لقد تراجعت الأحزاب الأكثر تأثيرا وفشلت بالرغم من حسم الصراع لصالحها للوصول إلى الحكم ولتنفيذ أهدافها وإحداث التغييرات الملائمة لها.
لا توحي نتائج الانتخابات بمناخ إيجابي عام، لذلك نجد حالات نفور من الأحزاب والنخب السياسية، وتباعدا بين المواطن والدولة، بين الفرد والمؤسسة بين الوهم والواقع. هذا التباعد الذي ينذر بالقطيعة إذا ما اتسع ليشمل ويغطّي جوانب عديدة في الحياة العامة ويتناول مستقبل الأفراد والوطن معا.
لا يمكن أن يسوء الوضع أكثر من ذلك، وعلى القوى السياسية التي تناضل من أجل الديمقراطية أو التي يُفترض فيها أنها كذلك أن تمتلك الجرأة وتعبّر عن نيّة الاستفادة من أخطاء الماضي وتستوعب الدرس من فشل الكثير من الأفكار والشعارات التي طُرحت، وأن تعيد ترتيب أولويات العمل وأن تحاسب نفسها.
اليوم هناك انقسام كبير في المشهد السياسي واختلاف في المواقف حول تشكيل الحكومة القادمة. ولاشك أنه لا بديل من النخب والأحزاب في الديمقراطية التعددية ولكن الرهان مجدّدا على الأحزاب التي مارست الحكم في المرحلة السابقة هو رهان خاطئ، وأنّ العمل السياسي مع جهات لا تمت بصلة إلى الخبرة السياسية هو عمل مبتور أكدته التجارب الماضية.
عودة مدرسة السياسة
لقد كانت ردود فعل المتابعين للشأن السياسي والمحللين لخطاب الرئيس متباينة، وهذا طبيعي فالمواطن في دنيا السياسة لا يلتمس عذرا و لا ينظر الى خصوصية الموقف ولكن يتمسّك بظاهر الكلام. إنّ تغيير الواقع لا يقف عند القضايا والوعود التي تتضمّنها الخطب الرسمية… بل يتّصل بتوافر الارادة السياسية التي تُعتبر العنصر الأهم في الفعل السياسي المرتبط بالمصلحة الوطنية ومصالح البلاد العليا.
لن ينصلح أمر البلاد ونخلص من هذه الدوامة التي ندور فيها إلا إذا عملنا على تغيير الذهنية (العقلية) وتحرير الارادة السياسية… تغييرا وتحريرا يتعدى التحول الشكلي، ليتصل بالالتزام القوي بإصلاح السياسات العامة واتخاذ الاجراءات اللازمة ووضعها موضع التنفيذ.
إنّ الجميع يدرك وضع البلاد وحاجتها لمنطق ثقافي يعزّز استكشاف طرق جديدة في التفكير السياسي والممارسة. لا أريد في هذا السياق التوقف كثيرا عند مصطلح “الثورة الثقافية” لأنه مصطلح ذو طبيعة مرحلية ويشكل نوعا من الأفكار المسبقة التي تُحيلنا إلى ثورة الشباب الصيني خلال سنوات 1966-و1976 لتطهير البلاد من الحرس القديم.
لقد لجأ “ماو تسي تونج” إلى تلك الخطوة للتخلص من خصومه في الحزب الشيوعي في أعقاب الفشل الذريع لما عرف بسياسات القفز الكبرى الى الأمام. وكان أوّل من استجاب لدعوته الطلاب الذي نظموا أنفسهم في المجموعات الأولى للحرس الأحمر ثم لحق بهم العمال والجنود. طوال عقد الثورة الثقافية لم تُفتح المدارس الصينية أبوابها مما ترك جيلا بأكمله دون تعليم، و ل ايعرف عدد ضحايا هذه الثورة الذي قد يصل إلى مئات الآلاف إن لم يكن ملايين.
لهذه الأسباب وغيرها أفضل مصطلح الثقافة السياسية وهو مصطلح يُطرح ضمن البدائل المتاحة لتلاؤمه مع ظرفية المرحلة لدينا، وتجسيده أفضل التمثّلات لتأسيس ثقافة تقوم على القيم والمبادئ والعمل، ثقافة ترتكز إلى العقل والتجربة وليس ثقافة تدمير التراث الثقافي والتاريخي.
أفهم أنّ السياق الجديد يتجاوز مفهوم الزعامات والنماذج والمثل العليا، والقطع مع مبدأ التوجيه من فوق أو الخضوع للتدرج الهرمي في التنظيم، ولكن الأمم والشعوب لا تستطيع المحافظة على استمرار وجودها وتقدمها ورقيّها إذا تجاهلت أبطالها وزعمائها وتغافلت عن تأكيد استمرارية دورهم الخالد. ولا يليق بها أن تتراجع ببناة مجدها إلى مناطق مظلمة في ثنايا الذاكرة والتاريخ. ولن يُكتب للأي إصلاح سياسي النجاح ما لم يتأسّس على هذه المنطلقات ويصاحب بإصلاح تحتي عميق ومتواصل.
إنّ ضعف النضج الثقافي السياسي هو الذي يفسر إلى حدّ ما لماذا وصلت البلاد إلى ما وصلت إليه من عنف وتعصب ديني وصراعات، وعلينا أن تدرك جيدا قيمة الموقف الذي نحن فيه لحماية الوطن والدولة من الانهيار وتنقية المشهد السياسي من شبهات الخيانة والعمالة والتبعية و ما تمثله من مخاطر.
* ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك