تسير حركة النهضة باتجاه عزلة سياسية رغم تصدرها نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في السادس من أكتوبر الماضي وهذا ما جعلها في موقف لا تحسد عليه بعد إعلان الأحزاب الفائزة التي تريد النهضة التحالف معها لتكوين حكومة ائتلافية عدم رغبتها في حكومة تقودها النهضة حيث أبدت هذه الأحزاب خاصة التيار الديمقراطي و حركة الشعب وتحيا تونس تردّدا كبيرا في التحالف مع النهضة خلال الخمس سنوات القادمة.
بقلم فيروز الشاذلي
هذا التردّد يرجع بالأساس إلى تخوّف هذه الأحزاب من أن تشهد نفس مصير الأحزاب التي اندثرت سابقا نتيجة التحالف مع حركة النهضة منذ عهد الترويكا (جانفي 2012-جانفي 2014) حتى مرحلة التوافق بعد انتخابات 2014.
هذا التخوّف انعكس بصورة واضحة على الساحة السياسية فنحن الآن لسنا بصدد متابعة أحزاب سياسية تبحث عن نقاط مشتركة بينها كقاعدة مفاوضات لتكوين حكومة ائتلافية بل نرى تباعدا و شروطا قاسية لدخول الحكومة و هجومات بين هذه الأحزاب التي يبحث أغلبها عن طوق نجاة يمكّنها من دخول الحكم دون أن تشهد نفس مصير الأحزاب السابقة التي عانت الويلات نتيجة التحالف مع النهضة.
الخوف من التحالف القاتل
هذا التخوّف من التحالف مع حزب حركة النهضة عنده أسبابه الموضوعية التي لا تدخل بتاتا ضمن سياسة التجني على الحركة فمصير حزبي التكتل و المؤتمر من أجل الجمهورية وصولا إلى حزب نداء تونس مازال ماثلا في الذاكرة السياسية للأحزاب التي فازت في الانتخابات التشريعية الأخيرة وتدخل ضمن مشاورات حزب حركة النهضة لتكوين الحكومة الجديدة، فجميع الأحزاب التي خاضت تجربة التقارب مع حركة النهضة كان مصيرها الاندثار أو الانهيار والتفكك خاصة الأحزاب ذات التوجه والخط المحسوب على الثورة فالمنتمين لهذه الأحزاب يتخوفون من سياسة النهضة التي تميل إلى إتباع التبعية في معاملة الحلفاء السياسيين وعدم معاملتهم كشركاء في برنامج سياسي على مبدأ الندية والسعي لنجاح مشترك وهذا ما جعل حركة الشعب تتهرّب أصلا من التحالف مع النهضة وتعبّر صراحة عن تطلّعها لترؤس الحكومة من قبل شخصية يختارها رئيس الجمهورية لأن قياديي حركة الشعب يعرفون جيدا كيف تمت معاملة القيادي بحزبهم الدكتور سالم الأبيض من قبل حزب النهضة إبّان تسييره لوزارة التربية أثناء فترة الترويكا وتعمّد تهميشه وعدم مساندته سياسيا أمام حملة الإضرابات القطاعية بالتعليم أثناء تلك الفترة.
هذا الموقف لا يختلف كثيرا عند قيادة التيار الديمقراطي فمؤسس الحزب محمد عبّو كان شاهدا على الانقسام الدراماتيكي الذي شهده حزب المؤتمر من أجل الجمهورية باعتباره كان من قياديي هذا الحزب وكيف أن التحالف مع النهضة قسّم الحزب بسبب إصرار النهضة على معاملته كجناح تابع لها والتقليل من شأن رئيسه المنصف المرزوقي الذي كان يشغل منصب رئيس الجمهورية حسب التنظيم المؤقت للسلط العمومية مما كان له انعكاس سلبي كبير على سمعة الحزب وتسبب ذلك في خسارة خزّانه الانتخابي.
كذلك كان الأمر بالنسبة لوزراء المؤتمر فمحمد عبّو نفسه ضاق ذرعا من تعمد رئيس حكومة النهضة محمد الجبالي سلبه أي صلاحية في متابعة ملف الإصلاح الإداري مما دفع به إلى الاستقالة من منصبه بعد استحالة التواصل معه.
في نفس الإطار تم التعامل مع بعض الوزراء بمنطق التًهميش من خلال أخذ بعض القرارات التي تهم الوزارة على مستوى رئاسة الحكومة بينما هي من صلاحيات الوزير المعيّن وأبرز مثال على ذلك يتذكره التونسيون جيّدا المشاكل الكبرى التي حصلت مع الوزير عبد الوهاب معطّر المحسوب على المؤتمر والذي شغل منصب وزير التجارة في عهد الترويكا حيث أصبحت قراراته دون جدوى و القرارات الفعلية يتم اتخاذها من قبل المستشار الاقتصادي للنهضة رضا السعيدي المعيّن برئاسة الحكومة مما جعل الوزير يحتج في أكثر من مرة على هذه السياسة الازدواجية في أخذ القرارات.
ولعل ما عجّل في انهيار حزب المؤتمر هو سعي حركة النهضة إلى استقطاب شق معين من الحزب على أساس إيديولوجي وأمام حداثة هذا الحزب بمعترك ممارسة الحكم السياسي الذي يبقى أصعب بكثير من مقاومة الدكتاتورية انقاد الحزب إلى انقسامات عديدة ثم إلى هزيمة انتخابية قاسية سنة 2014 ثم اختفى تماما في الانتخابات الفارطة ليكون صرحا قد هوى بفعل التحالف مع النهضة وهو نفس مصير حزب التكتل بقيادة مصطفى بن جعفر الذي اندثر واختفى عن الساحة السياسة مبكرا منذ انتخابات سنة 2014.
النهضة حزب عقائدي متماسك
ما يسهل على حركة النهضة عدم الخوف من الدخول في تحالفات حزبية صعبة ومعقدة، دون الخوف من تبعات التأثيرات السلبية لفشل هذه التحالفات خاصة على الصعيد الانتخابي وفقدان القاعدة الشعبية، هو إستفادة النهضة من مرجعيتها العقائدية والإيديولوجية التي مكنتها في عديد المحطات الانتخابية الحاسمة من المحافظة على حضورها السياسي وهو ما كان جليا في انتخابات سنة 2014 فرغم انهيار واندثار حزبي التكتل والمؤتمر من أجل الجمهورية فقد استطاعت حركة النهضة القائدة لسفينة الترويكا من الحصول على عدد هام من المقاعد النيابية والحصول على المرتبة الثانية بعد حزب نداء تونس وإجباره بالتالي على إشراك النهضة في الحكم باعتبار تحصل الحركة على 70 مقعدا أي قرابة ثلث مقاعد البرلمان، بعد ذلك استطاعت الحركة بالاستعانة بتموقعها الإيديولوجي بين أنصارها من الفوز في الانتخابات البلدية سنة 2018 والفوز كذلك في الانتخابات التشريعية هذه السنة مقابل اندثار حزب نداء تونس وحصوله فقط على ثلاثة مقاعد في الانتخابات الأخيرة بعد أن كان يستحوذ على 86 مقعد في انتخابات 2014 و يمسك برأس السلطة في كل من قرطاج وباردو والقصبة.
هذه الوحدة على خط إيديولوجي واحد جعلت الحركة تتمكن من الإفلات من التوجه العقابي للتصويت الانتخابي في الانتخابات التشريعية الأخيرة واستعادة الحضور الأغلبي على المشهد السياسي بحصولها على المرتبة الأولى مما يمكّنها من المحافظة على استقرار هياكل الحزب في مرحلة أولى والعمل في مرحلة ثانية كلاعب رئيسي في الساحة الحزبية من خلال تقوية أي شق من خصومها السياسيين وحلفائها على حد السواء بالعمل على استقطابهم لضمان عدم توحد هذه الأحزاب مما يتيح لها تحقيق عدة أهداف في نفس الوقت وهي على التوالي استعمال المشاكل الداخلية للأحزاب كشماعة لتحمل صدمات الحكم والفشل الحكومي، تكريسا لواقع فشل الأحزاب في تحمل أعباء الحكم، وإبراز حركة النهضة في دور الحزب الوحيد المنظم و المستقر القادر على تخطي جميع العقبات وتحمل أعباء الحكم.
حركة النهضة بين حتمية المراجعة أو الإنكواء بنفس النار
هذه الأزمة التي تعيشها حركة النهضة الآن من خلال العزلة السياسية وعدم وجود تقارب حقيقي مع أحزاب الخط الثوري يجعل من الضروري قيام الحركة بمراجعة سياستها في التحالف مع الأحزاب من خلال إعطاء بعد تشاركي حقيقي لشركائها المفترضين في الحكم وعدم هرسلتهم بالرغم أن الفترة السابقة أعطتنا فكرة ضافية بأن حركة النهضة مازالت تتعامل مع حلفائها المفترضين بنفس منطق الاستعلاء ومحاولة فرض الوصاية على قرارات هذه الأحزاب وهو ما بينته الحرب الشعواء التي خاضها الذباب الإلكتروني الأزرق للحزب ضد كل من قيادات التيار و حركة الشعب، فهذه السياسة ستكون وخيمة ليس فقط على هذه الأحزاب بل من المؤكد سوف تنعكس سلبا على حزب النهضة بالذات الذي بدأ يرسم بنفسه ملامح عزلة سياسية لو تحقّقت سوف ينقلب السحر على الساحر وسوف يدخل الحزب في مشاكل داخلية بلا نهاية وفشل الحركة في تشكيل حكومة بقيادة من داخلها بالتأكيد سوف يحيي المشاكل الهيكلية المزمنة التي تعيشها والتي خفّف من وطأتها حصولها على المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية الأخيرة، لذلك لزاما على النهضة أن تثمّن دور هذه الأحزاب في الحكومة المقبلة لفائدتها وفائدة الثورة التونسية.
شارك رأيك