المقارنة التي يقوم بها سيف الدين مخلوف بين تونس و كوريا الجنوبية لا تستقيم تاريخيا كما أن نقده للحبيب بورقيبة يدخل في باب الجحود ونكران الجميل والتنكر لتاريخ البلاد والتشكيك في رموزها ومعاداة العمل والتقدم على عكس ما يدعيه من ثورية مفرطة تسمع منها جعجعة ولا ترى طحينا.
بقلم الأسعد بوعزي *
في سنة 1992 كنت أتابع دروس مدرسة الأركان بالولايات المتحدة الأمريكية صحبة جمع من الضباط يمثلون 28 دولة.
كنّا نتابع جزءا من البرنامج (module) يتعلق بأهم الدكتاتوريات والثورات في العالم لمّا سألت زميلي من كوريا الجنوبية: “كيف لكم أن تحكمكم دكتاتورية بالحديد والنار وأنتم شعب واع ومتعلّم”؟
أجابني مبتسما: “فلكوننا شعب واع ومتعلم كان علينا أن نقبل بدكتاتورية مستنيرة حتى يتمّ بناء الدولة التي خرجت للتوّ من الاستعمار مع نهاية الحرب العالمية الثانية. نحن كنّا مدركين انه لا بدّ علينا من المرور بهذه المرحلة العسيرة وقبول التضحيات الجسام من أجل بناء الاقتصاد ووضع الدولة على السكة إذ لا يمكننا إرساء الديمقراطية بدونهما وها أننا تخلصنا من الدكتاتورية مع بلوغ الهدف المنشود”.
في شروط وأسباب نهضة كوريا الجنوبية
يقودني هذا الحديث إلى الردّ على سيف الدين مخلوف الذي ما أنفكّ ينتقد بورقيبة ويحقّره ويتهمه بالفشل في النهوض بتونس مقارنة بما حققته كوريا الجنوبية التي إستقلت بعدنا (حسب زعمه) ويصفه بالطاغية الذي قتل الكثيرين من شعبه (أحداث الخبز) ومعارضيه فأقول له ما يلي:
اعلم يا سيف الدين أن كوريا استقلّت قبلنا وليست بعدنا كما تدّعي (1948) ولا تنسى أن فارق ثمانية سنوات من الاستقلال له وزن كبير عندما يتعلق الأمر بدولة فتية.
اعلم أن جيش كوريا الجنوبية قتل (سنة واحدة فقط بعد استقلال البلاد ما يزيد عن 60 ألف رجلا فيما يعرف بثورة الفلاحين وذلك تحت حكم Syngman Rhee صاحب نظرية l’ilminisme التي تشبه النازية والتي تهدف إلى فرض الإنضباط على الشعب وتدجينه بالقمع والقوّة.
واعلم أيضا يا هذا أن كوريا الجنوبية بدأت تشهد نهضتها الاقتصادية مع حكم الدكتاتور Parck Chung-Hee الذي تم إغتياله سنة 1979 ما قاد البلاد إلى اضطرابات دموية أتت على آلاف الأرواح من الطلبة والعمال وانتهت بمرور الدولة إلى الحكم الديمقراطي سنة 1980 لتصبح على ما هي عليه اليوم.
واعلم كذلك أن هذا الانتقال الديمقراطي وهذه النهضة الاقتصادية والصناعية ما كان لهما أن ينجحا لولا الوجود الدائم لأمريكا على الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة الكورية لما اكتسته هذه الدولة من أهمية إستراتيجية طوال الحرب الباردة ولما تمثله اليوم من رهانات جيوستراتيجية قد ترتقي إلى أعلى درجات الأهمية في منظور الأمن القومي للعالم الغربي كله.
ودون التنقيص من جهد الشعب الكوري في بناء دولته لما يميزه من ثقافة وانضباط، فإن كوريا الجنوبية ما كان لها أن تصبح القوة الاقتصادية رقم 12 عالميا لولا نقل التكنولوجيا والأموال الطائلة التي ضخّها الغرب هناك.
سيف الدين مخلوف الجاحد وناكر الجميل
خلاصة القول يا سيف الدين أن بورقيبة (وهو ليس معصوما من الخطأ) لا يمكن مقارنته بأيّ دكتاتور من الذين حكموا كوريا ولعل ما أشرت إليه من هفوات ارتكبها في حق شعبه كان بحكم إكراهات المرحلة التي يفرضها بناء الدولة بمقوّماتها الحديثة.
إن تونس وبالرغم من إستقلالها بعد كوريا وغيرها من الدول كانت في ستينات القرن الماضي أفضل بكثير من بعض الدول مثل الصين وكوريا الجنوبية والبرتغال وكان ذلك بفضل وسائل ذاتية بسيطة جدّا عرف بورقيبة كيف يوظفها لمصلحة البلاد.
لا تنسى يا مخلوف أن ما حققه بورقيبة عجزت جل الدول المتقدمة عن تحقيقه من ذلك تحرير المرأة ومجانية التعليم والصحة والقضاء على العروشية والقبلية المقيتة إلى جانب الإنجازات المادية من سدود وطرقات وجامعات ومطارات ومستشفيات وغيرها من الإنجازات ويكفيك أن تقوم بجولة قصيرة في ربوع بلادك لترى منها الكثير.
لا تنسى أيضا أن تقهقر تونس اليوم على السلم الاقتصادي يعود بالأساس إلى:
– عقلية فئة لا يستهان بها منن الشعب التي ظهرت بعد أحداث جانفي 2011 والتي تشبه (مع كل أسف) عقليتك انت التي تتنكر لتاريخ البلاد وتشكك في رموزها وتعادي العمل والتقدم على عكس ما تدعيه من ثورية مفرطة تسمع منها جعجعة ولا ترى طحينا.
– أن بورقيبة الذي حرر التراب التونسي من الاستعمار وأمّم الأراضي الفلاحية لم يتنازل (كما فعل الكوريون) ولو عن شبر واحد لأمريكا التي كانت تلهث وراء بناء قاعدة أطلسية بشمال إفريقيا. عليك أن تتعلم من بورقيبة الذي ترك لك كل مقومات الكرامة والعيش الكريم شيئا واحدا: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.
ختاما، تذكر يا مخلوف يا جاحد المعروف أنك ربما ما كان لك أن تكون على قيد الحياة لولا الدّور التي بناها بورقيبة لرعاية الأم والطفل في كل مكان من الجمهورية.
ماذا عساي أن أقول لك يا مخلوف سوى “خسئت في ما ذهبت إليه”.
* ضابط بحرية متقاعد.
شارك رأيك