الحكومة القادمة مدعوة إلى العمل على إعادة تأهيل كافة المتدخلين في منظومة زيت الزيتون إبتداءا من الفلاح وصولا إلى المسوق النهائي من خلال سلاسل القيمة المضافة بحيث تشمل كذلك برامج تطوير التكنولوجيات المستعملة على كامل مرحلة الإنتاج والعمل على إنتاجها على مستوى وطني ليتسنى توفير وسائل إنتاج حديثة وهذا بدوره يمكن من الترفيع من نسبة إدماجه الصناعي مما سيوفر سبل التشغيل لأصحاب الشهائد العلمية.
بقلم فوزي العبيدي
غريب أمر هذه البلاد فقد وصلنا إلى مرحلة يتخوّف فيها الفلاح من أن ينعم عليه الله “بصابة” قياسية لكثرة ما يعانيه من مشاكل لا تعد ولا تحصى بعد جني المنتوج، وبعد أن رأينا ذلك جليّا في الصائفة الماضية مع “الصابة” القياسية على مستوى إنتاج الحبوب وما رافقها من مشاكل لوجستية كالنقل والتخزين.
مرّة أخرى تتكرّر هواجس الفلاحين هذه المرّة مع توقّع إنتاج قياسي لزيت الزيتون هذا الموسم يصل إلى حدود 350 ألف طن وبذلك تكون تونس مرشّحة أن تنتزع المرتبة الأولى على مستوى الإنتاج العالمي من إسبانيا بفعل تراجع إنتاجها بقرابة 25 بالمائة ولكن رغم ذلك قابله العديد من فلاّحي هذا القطاع ومنتجي زيت الزيتون بكثير من التوجّس بسبب مشاكل تصدير وترويج هذا المنتوج بالأسواق الخارجية نتيجة عدم تثمينه وإعطاءه القيمة المضافة الحقيقية وخاصة ارتباط الصادرات التونسية من زيت الزيتون بشكل وطيد بالسوق الأوروبية مما يهدّد بركود على مستوى كميات الزيت المخزنة كما وقع في السنوات السابقة دون أن تستفيد منه الدولة التونسية أو فلاّحوها وهذا كلّه بسبب عدم وجود فعل حقيقي لتغيير هذا الواقع منذ عقود رغم كثرة الشعارات المرفوعة وكثرة الأرقام الإيجابية التي تغفل حقيقة وجود ثروة وطنية مهدورة فأغلب الحكومات السابقة حتى منذ زمن بن علي إلى ما بعد الثورة تقدّم لنا أرقام الصادرات في غالب الأحيان بالأسعار الجارية أي بارتفاع راجع لنسبة التضخم وليس لتطور حقيقي بالكميات وحتى لو كان هناك تطور متواضع على مستوى الكميات فنحن كأنما نرضى بالقليل من ثروة كبيرة قادرة على دعم الإقتصاد التونسي و التخفيف من العجز التجاري وتوفير أموال ضخمة من العملة الصعبة تجنّبنا تضخم التداين الخارجي المفرط لتمويل ميزانية الدولة.
الثروة المهدورة
غراسة الزيتون تعتبر من الاستثمارات الفلاحية طويلة المدى وما يبرز أهمية علاقة التونسي بهذا المنتوج هو العدد الهام من أشجار الزيتون المغروسة بتونس والتي تجاوزت 86 مليون شجرة على مساحة جملية قدرها 1،9 مليون هكتار، أي قرابة 30% من إجمالي الأراضي الفلاحية المستغلة، و رغم مشاكل تصديره خاصة المتعلقة بتثمين هذا المنتوج الذي يتم بيع الغالبية الساحقة من كمياته سائبة وغير معلبة تحت علامة تجارية تونسية، فقد مثّلت صادرات زيت الزيتون 43% من الصادرات الفلاحية التونسية و10% من مجمل الصادرات التونسية ليكون أحد أهم مصادر العملة الصعبة لخزينة الدولة، فمن المتوقع أن تصل عائدات التصدير هذه السنة قرابة 1600 مليون دينار لقرابة 170 ألف طن، لكن هذه الأرقام تعتبر متواضعة جدا مقارنة بالفرص التي يتيحها تثمين هذا المنتوج الذي للأسف يتم التعامل معه كمادة أولية يتم تصديرها لبلدان أوروبية خاصة كإيطاليا التي تستورده سائبا ثم بعد ذلك تقوم بتعليبه على أساس أنه منتوج إيطالي وتعيد تصديره للعالم بأضعاف ثمنه في تونس، أي لو أن كافة الكميات المصدرة هذه السنة كانت معلبة تحت علامة تجارية تونسية أصلية لكانت إيرادات تونس من هذا القطاع تتجاوز 3000 مليون دينار، أي أن هذا المنتوج سوف يصبح لوحده قادرا على تغطية قرابة 60% من العجز الطاقي للبلاد التونسية مع الخارج، فما بالك بسنة 2020 التي من المنتظر أن تصل الكميات المصدرة من الجانب التونسي إلى قرابة 250 ألف طن وذلك بسبب تراجع الإنتاج بصفة كبيرة لدى أهم المنافسين العالميين خاصة إسبانيا، إيطاليا واليونان إضافة إلى ترقّب زيادة الأسعار العالمية بقرابة 20% بسبب نقص الإنتاج العالمي نظرا للظروف المناخية الطارئة هذه السنة بأهم الدول المنتجة، ما يعني أن الإيرادات التونسية سوف تكون مقدرة بحوالي 2800 مليون دينار بينما السقف الحقيقي الذي من المفترض أن تعمل الدولة التونسية لتحصيله من صادرات زيت الزيتون التونسي هو بين 4000 و4500 مليون دينار دينار أي ما يغطي العجز الطاقي بقرابة 90%، وهذا ما دفع العديد إلى اعتبار زيت الزيتون هو البترول الأصفر للدولة التونسية لكن للأسف تم إهداره لعقود.
مشكلة مزمنة تلخّص تخلّف الاقتصاد التونسي
توفر إنتاج كبير من منتوج إستراتيجي ومطلوب على المستوى العالمي، كان من المفروض أن يكون حلاّ وقاطرة تجر الاقتصاد التونسي نحو النمو وتعطيه سبيلا للخروج من الأزمة الاقتصادية التي يتخبط فيها في العقد الأخير وخاصة توفّر لنا موارد طائلة من العملة الصعبة تغنينا عن الاقتراض المكلف الذي أثقل ميزانية الدولة ولكن على العكس تماما أصبح هذا المنتوج وتسويقه هو في حد ذاته مشكلة كبيرة تنضاف إلى المشاكل الهيكلية الأخرى للاقتصاد التونسي.
هذه الحقيقة تعطينا لمحة على الخيارات الاقتصادية الخاطئة التي توختها تونس منذ عقود و أدّت إلى تحويل الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد ريعي يغيب عنه التخطيط الإستراتيجي كمنوال للتنمية المستديمة مما أدى إلى أن تصبح أكبر ثروة فلاحية وطنية رهينة بعض الشركات الأوروبية ومن خلفها السماسرة المحليين الذين لا ينشطون إلا أثناء موسم تصدير هذه المادة مما أدى إلى فقدان الدولة السيطرة على قطاع حيوي و إبقائها في حالة تبعية تجاه هذه الشركات.
هذه المشكلة تبيّن بوضوح أن الاقتصاد التونسي مازال متخلّفا كثيرا على أن يكون اقتصاد قادر على المنافسة و الاندماج الكامل في السوق العالمية وهذا الأمر ينطبق تقريبا على كافة القطاعات الأخرى كالمنتوجات الفلاحية والصناعات الغذائية والنسيج و الأحذية، فهذه القطاعات الإستراتيجية تعاني كلها من نفس المشاكل نتيجة تخلّف الاقتصاد التونسي بسبب التبعية المالية و التكنولوجية وتكريس نمط الاقتصاد القائم على المناولة لفائدة مجموعة الدول الأوروبية أساسا وهذا يرجع إلى عدة أسباب منها ما يتعلق بعدم سعي الدولة إلى مراجعة اتفاقية التبادل الحر مع الإتحاد الأوروبي التي بيّنت السنوات أنها حوّلت الاقتصاد التونسي إلى اقتصاد مناولة.
من جانب آخر، عدم وجود رؤية وبرنامج واضح لاستغلال الفرص التي أتاحتها الاتفاقية التجارية نفسها فليس ذنب الأوروبيين عدم سعي الحكومات التونسية المتعاقبة استغلال الفرص التي وفرتها هاته الاتفاقية و أخيرا عدم وجود عمل حثيث على تنويع الشراكة التجارية الخارجية لتونس بل أن هذا التوجه تقريبا بقي مجرد شعار يتم رفعه في الحملات الانتخابية لينتهي مفعوله مع انتهاء الحملة.
قيمة مضافة تكاد تقارب الصفر
عديدة هي الميداليات التي تحصل عليها منتوج زيت الزيتون التونسي والتي تجاوزت قرابة العشرين ميدالية على المستوى العالمي من حيث جودة المنتوج التونسي في المسابقات الدولية وللمفارقة أغلب الميداليات تحصّلت عليها تونس في بلدان أمريكا الشمالية خاصة الولايات المتحدة الأمريكية والمعروفة بالمعايير الصعبة والحازمة التي تعتمدها مخابرها عكس التقييمات الأوروبية السلبية دائما تجاه زيت الزيتون التونسي وهذا مفهوم باعتباره المنافس الأول للزيت الأوروبي، لكن هذه الميداليات بقيت بلا فائدة كبرى على مستوى تثمين وتسويق المنتوج التونسي نظرا لأنها في الغالب نتيجة مجهود شخصي للمشاركة في هذه التظاهرات وليست ضمن سياسة إستراتيجية مدروسة.
عند تحليل هيكلة ومكونات المنتوج النهائي لزيت الزيتون التونسي نلاحظ وبلا شك أن تونس تخسر الكثير في هذا القطاع نتيجة تدني القيمة المضافة المتأتية من إنتاج زيت الزيتون فلا ننسى أن أكثر من 90 بالمائة من زيت الزيتون التونسي تصدّر كمنتوج خام ليستعملها المستورد الأجنبي خاصة الشركات الأوروبية كمادة أولية أي أن القيمة المضافة تكاد تكون صفرية بين مرحلة إنتاج الزيت وتصديره، وإذا قارنا القيمة الحقيقية لزيت الزيتون التونسي بين تسويقه خام وثمنه كمنتوج نهائي معلب بكامل الخصائص الفنية للتعليب والتسويق التجاري واللوجستي سوف نجد أن آلاف المليارات من الموارد بالعملة الصعبة مهدورة نتيجة القصور في الرؤية الاستشرافية لهذا القطاع، وهذا القصور لا يمكن تحميله فقط للحكومات السابقة التي مسكت بزمام الأمور بعد الثورة بل يرجع إلى تراكمات سياسات ضيّقة الأفق منذ عقود التي لم تبحث عن إيجاد وترسيخ قاعدة صناعة محليّة مندمجة لهذا المنتوج تستوعب كذلك مراحل التصنيع والتعليب واكتساب الخبرة في امتلاك علامات مسجّلة وطنية لترويج زيت الزيتون التونسي لأن هذه المراحل ليست فقط تمثّل أهمية كبرى من حيث القيمة المضافة الكبرى بل لأنها ترسّخ مبدأ الصناعة المحلية المندمجة والتي تستفيد من فرص التصدير والتجارة الخارجية وهذا يساعد في توفير آلاف مواطن الشغل لبلاد تعاني أصلا من البطالة كما تمكن الاقتصاد التونسي من الاستفادة المثلى من التعاملات الخارجية وليس كما هو الحال الآن حيث أصبحت عملية إنتاج زيت الزيتون مربوطة بالخارج على حساب الاقتصاد المحلي فجل المداخيل النهائية المتأتية من بيع المنتوج التونسي الذي تمت إعادة تصنيعه وتعليبه تحت علامات إيطالية، فرنسية و إسبانية تستحوذ عليها هذه الشركات الأجنبية.
الحلول ليست بالمستحيلة
الحكومة القادمة تمتلك فرصة كبيرة للقطع مع سياسات الماضي المحدودة في الرؤية وفي النتائج فالحلول الممكنة ليست بالحلول المستحيلة أو صعبة الإدراك بل تتطلب بعض من الإرادة الصادقة وخاصة العمل الفعلي على تثمين منتوج إستراتيجي يدرّ المليارات من العملة الصعبة لخزينة الدولة التونسية.
لا بد من إعادة تأهيل كافة المتدخلين في منظومة زيت الزيتون إبتداءا من الفلاح وصولا إلى مرحلة التسويق النهائي من خلال سلاسل القيمة المضافة بحيث تشمل كذلك برامج تطوير التكنولوجيات المستعملة على كامل مرحلة الإنتاج والعمل على إنتاج هذه التكنولوجيات على مستوى وطني ليتسنى توفير وسائل إنتاج حديثة وهذا بدوره يمكن من الترفيع من نسبة إدماجه الصناعي مما سيوفر سبل التشغيل لأصحاب الشهائد العلمية.
شارك رأيك