إنّ تَتَابعُ نواقيس الخطر التي تُقرعُ في هذه الأيام بتونس في مختلف قطاعات الفلاحة تكادُ لا تُنْبأ بخير و لا بمستقبل يُرْتجى لها… و تواتُر الأزمات تشهدُ بذلك كما نرى ذلك مثلا في الثلاثية الأخيرة من أزمة في اللحوم الحمراء و تهريب للأبقار، تليها أزمة في البيض و الفراخ، تليها أزمة في الحبوب، تليها أزمة في الحليب، تليها أزمة في البطاطا…، فالكارثة البيئية التي تحُلُّ بسَمَكنَا وسواحلنا منَ المهدية إلى صفاقس… و نحن نتسائلُ هلْ أمام بوادر أزمة لاحقَة في الزيت و الزيتون في الأفُق… !
بقلم مالك بن صالح *
و ممّا يُذكر، و لا يُشكر، بالنسبة لبوادر أزمة في الزيتون تلُوحُ بداية منْ جمْعه و ثماره لا تزال على الشجر …؛ فجمع الزيتون الذي كان يُحسمُ، البارحة، خاصة بفضل العمل الجماعي الذي لمْ يكنْ يستنكف منهُ أحد… و لمّا نذكر البارحة… سرعان ما نستحضرُ مقُولتنا المأْثـورة ”حمل الجماعة ريش”.
لكن، وممّا يحُزُ في النفْس، أنْ أصبح يتناسى بعضُ الشباب ما كان يقومُ به الأباء من عناء للحصول على لقمة عيش العائلة – إنْ كان موردُها جمْع زيتون أو غيْره من الأعمال الشاقّة – هُو يقول ”إخدم بقفصي و حاسب البطال” مُقتنعا بـ”أنّ خادم القوم سيّدُهُم” ؟ و مقُولات الأجداد و العلماء في هذا الشأن عديدةٌ …
العمل اليدوي ليس استهانةٌ بما تحصلنا عليه من ”العلم”
ففي مثل هذه الأوضاع لا يجب أنْ ننسى موْقف البعض من أصحاب الشهائد العليا، منذ أربع أو خمس سنوات – ممنْ رفضُوا مقترحا يدعوهم للمساهمة في جمع الصابة حينئذ عوضا عن البطالة و كأنّ التَمدرُس يسمحُ بمثل هذا التفكير العقيم و كأنّ العمل اليدوي استهانةٌ بما تحصلوا عليه من ”العلم” ؛ فما هذا إلاّ صنف عدم التواضع و التكبُر على موطن رزق المُناف لأخلاق أهل العلم الحقيقيين … مُتناسين أنّ زملاءهم، في أوروبا، لا يستنكفون من القيام بجمع صابات العنب و الفرولة… و ما إلى ذلك من الغلال الأخرى، في زنابيل يحملُونها على ظهورهم.
و قدْ قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم منْذ أكثر من 14 قرنا : ”لأن يحتطب أحدكم حُزمة على ظهره، خيرٌ له من أن يسأل أحداً، فليعطيه أو يمنعهُ”…
ثُمّ هل تناستْ نساؤُنا ما كانت تقوم به أُمهاتُهنّ من الإجتماع بأبنائهنّ (و منهم الطبيب و المعلّم و العامل اليومي…) لتفرُض عليهم جمع ”الزواتن” على السرافة التقليدية… و حملها للمعصرة و الرجوع بالزيت و المحافظة عليه… حتى آخر قطرة منه ؟
تساؤلات لا تُجيب عمّا عساه يُقدّم أجابة مقنعة لما يشتكي منه فلاح 2019 من نقص في اليد العاملة أو منْ ضرورة للآلة المستوردة للقيام بجمع الصابة و البلاد تشكو من البطالة و من قلّة العُملة الصعبة لتوريد هذه الآلات ! أيدري مُواطنينا أنّ مثل هذا التفكير لا يدُلّ إلاّ على التواكُل و عدم الشعور بالمسؤولية… وهي عقليات تُدنّسُ أصولنا العربية و الإسلامية، يستنكرُها كلّ منْ ينتمي لهذا العالم الحديث…
ما يجدُرُ بنا اليوم لنحفض ماء الوجه و تونسنا في حاجة إلينا ؟
اليوم، و بالنظر للغياب الكلّي لما قد يُسمّى دولة، و لا لما قد يُسمى نشاط حزبي و تأطير لشباب ينتمي له، و لغياب أي عمل تقُوم به جمعيةً من بين آلاف الجمعيات التي تزخُرُ بها تونس…، و في انتظار حكومة قادرة على مُواجهة الأوضاع ؛ فما لنا منْ بُدّ، و نحُن جلوس ما ”بين مقعدين” كما يقول المثل الفرنسي، أن نعْتبر جميعا أنّ صابة الزيتون هذه هي صابة الجميع (و ليس لي فائدة شخصية من هذا النداء) فهل من عمل يُـمكنّ أنْ تقُوم به الأطراف المختلفة، حتى و لو بغياب التنسيق المُفترض ؟ فالحسُ الوطنيُ الحقيقيُ يفرضُ على كلّ منّا المسهامة في عمليّة إنقاذ في الأربعة أشهر القادمة…
على الشباب و أنا لستُ خيْرا منه :
- أنْ لا ينسى الجميع ما في عمق من حديث الرسول : ”لأن يحتطب أحدكم حُزمة على ظهره، خير له من أن يسأل أحداً، فليعطيه أو يمنعهُ” و أنّ ”خدمة النهار ما فيها عار”، و أنّ الإشتغال في جمع الزيتون، و لو بأجر متواضع، شرفٌ لكل من سيقومُ به و خطوة للثوْرة في الإتجاه الصحيح؛
- الإستفاقة السريعة من السُبات التي لازمتْنا مدّة 8 سنوات (وإنْ لم يكن هو الشبابُ هو المتسببُ فيها) فقد حان الوقت لأصحاب السواعد المفتولة مقدرتهم على اجتياز العقبات كما يشاؤون، بإستخدام ما توارثوه منْ تقنيات الأجداد أوْ بما إستحدثه الغرب من علوم حديثة : و قد أتقنوا ما شاء الله من الإتجاء إلى الـ ”فيس بوك و أخواته”… ! فلما لا يقُمْ كل طالبي الشغل لجمع الزيتون، و في طليعتهم أصحاب الشهائد العليا، بتسجيل أسمائهم و وسائل الإتصال بهم على حضرة الـ ”فيس بوك” و ليقُمْ، بالموازاة، كل عارض لتشغيل ”ضيوف” لجمع زياتينه بتسجيل إسمه و وسائل الإتصال به و ما قد أحضر لهم من وسائل مبيت أو أكل لديه (أو على سبيل الكراء) إذْ أنّه ليس من المفروض أنْ يكُون طالبو الشغل من نفس الولاية هُم و عارضوه… فيسهُلُ هكذا الإتصال بين الطرفين.
- هذا و نظرا لأوضاع الإقتصاد المُهترئةُ و رفقا بالبلاد على أنْ يتقبل الفلاح والمستهلك، بصدر رحب، ألاّ يتجاوز أجر العمل اليومي في هذه الظروف الـ 30 دينارا.
و على أمهات تونس :
على أُمهات اليوم، الشابات من بين الـ 25 و الـ70 عاما، أنْ تتذكّر ما كانت تقوم به أُمهاتُهُنّ من جمع لأبناء الأسرة (مهما كانتْ وظائفهم و درجاتهم الإجتماعية و بداية من من وزراء و نواب الحاضر والمستقبل…) و تخصيص، مثلا، يوْميْن في نهاية كلّ أسبوع لجمع صابة العائلة أو صابة أحد الأجوار من المسنين … عظّم الله أجرهم.
فعلى اُطُر الدولة و مُؤسساتها :
- أمّا بالنسبة لهذه الطبقة المختصّة، و منطلقا من السادة مديري المعاهد العليا والثانوية الفلاحية و معاهد و مراكز البحث، فالمبادرة المفروضةُ، وهم إختصاصيو الميدان، تنظيم (1) حملات تقُومُ بها الطلبة في آخر الأسابيع وفي العطلات القادمة كـتدريب تطبيقي في نطاق دراستهم، و (2) تأطير فرق المتطوعين من سُكان المدن و تلامذة المعاهد الثانوية و الجامعات في كلّ منطقة يتطوع أهاليها لهذا ؛
- و يبقى على من تَحَصلَ على العفو التشريعي العام بكلّ وزارات الدولة والمُؤسسات التى قبلتُ إحتضانهم، كخطوة إمتنان لهذه الدولة، وعلى الأحزاب و النقابات و الجمعيات المختلفة… القيام بالمبادرات التي تراها كمساهمات في سبيل الوطن مع شكرهم على ما سوف يُساهمُون به
و أمّا بالنسبة لمساهمة ديوان الزيت :
فنظرا لمحدودية طاقات الخزن من جراء ما تبقى من زيوت السنة الفارطة، فإنّي أقترح عليه أنْ يجد طريقة لتيسير بيع الزيت للمواطنين في الداخل و ذلك بالعمل – بموافقة البنك الركزي – على توفير قرض استهلاك بفائض 0% لكلّ من يقتني ”عُولتهُ” السنوية منذ الآن (مثلا بين 50 و 100 كغ) مع تسديده على أقساط ؛ حتى لا يجوع الدئب و لا يشتكي الراعي.
و بهذه المقتراحات المتواضعة أنهي ندائي لكل الأطراف المحبّة لهذا الوطن.
عظٌم الله أجر كُلّ متطوع و متطوعة و أثابهم على ما سيقومون به من هذا العمل الصالح ؛ و لعلّ تكونُ هذه العمليّة، إنْ ساندتُمُوها، تكون سابقة خير لمبادرات مماثلة، تونسنا في أشدّ الحاجة إليها.
* مهندس في الزراعة.
شارك رأيك