تعبت تونس من بعض السياسيين والشعارات والمؤسسات الجوفاء والمرافق المتداعية والآليات المنتجة للبؤس. فوجد المواطن نفسه في دوامة العنف و التعصّب والفساد. ألعوبة بين أيدي تجار السياسة الذين يرتكبون أسوأ الفظاعات باسم الدين والوطن والصالح العام.
بقلم العقيد (م) محسن بن عيسى
لقد مررنا في تونس منذ 2011 بتجارب في ممارسة الحكم وتداول السلطة، وكأنّ الوقائع تُكرّر نفسها في كل مرحلة، ويكون موقفنا وردّ فعلنا هما ذاتيهما في كل الحالات تقريبا. لقد تغيّب المواطن عن الشأن السياسي، وانسحب الوعي من إطار الواقع الاجتماعي إلى رحاب الأصولية، و سقطت الأخلاق في دوامة الفوضى، وتعمّق الشعور بالخوف على مؤسسات الدولة من الانهيار والتفكك أو تدميرها لصالح مشاريع وتيارات ما قبل الدولة الوطنية.
أوهام المنابر الأيديولوجية
لا أدافع على الاطلاق عن أحد ولا أُدين أحدا كذلك، ولكن الواقع يَصدمنا جميعا. لقد تخلّصت البلاد من نظام سابق وبدأ عهد جديد يوحي بكل إيجابية مناقضة لكلّ مظاهر السلبية. ولكن الذي حدث أنّ المقاربات والسياسات المعتمدة سجّلت نتائج مُتدنّية، وفي كلّ المجالات بدءًا من ظروف عيش المواطن وانتهاءً بأمنه المباشر.
يكفي أن ننظر إلى القضايا الأساسية المطروحة والتي تتعلق بالمواطنة والاستقرار والتنمية، لكي نلاحظ أنّ لجانا ووزراء تعاقبوا عليها لتتشكّل في النهاية في صورة قاتمة. إنّ الفصل بين الوهم والحقيقة ينعكس على الفرد الذي يأنس العيش في ظروف مستقرة وفي ظل مؤسسات قادرة على الاستمرار في دعم مسيرته وتتبّع مطالبه دون ضرورة العودة به الى النقطة الصفر. لقد تعبت البلاد من بعض السياسيين والشعارات والمؤسسات الجوفاء والمرافق المتداعية والآليات المنتجة للبؤس.
لا يمكن تغيير الواقع وفق مفردات الأيديولوجيا والسعي للسلطة والحفاظ عليها حسب النظرية المكيافيلية، بل وفق مفردات الرؤية الاستراتيجية والمشروع الأخلاقي لبناء الثقة والحفاظ على المكانة الاعتبارية للمؤسسة السياسية. لم نستوعب بعد الحاجة لتخليص السياسة من “الأوهام” والتعامل معها بوصفها علم إدارة مصالح الناس المتناقضة والمتضاربة، ومنهج تـكريس لمُثل أخلاقية قوامها انخراط الجميع في خدمة قيم المجتمع، والالتفاف حول المؤسسات الوطنية، والإسهام اليومي في بنائها وإنجاح تدخلاتها.
إنّ مقياس نجاح السياسة في إدارة الشأن العام يكمن في انتاجها لنخب من الأكفاء يتمتعون بفكر إداري وسلوك مؤسساتي، كفاءات لديها قناعات بالعمل والقرار الجماعي هذا فضلا عن الخبرة والحرفية وغيرها من أشكال التعامل مع فنّ الممكن.
جدل السياسة والأخلاق
لقد تيسّر لنا – خلال السنوات العديدة التي قضيناها في أداء الواجب – أن نراقب عن كثب الانفصال غير المحمود بين السياسة والأخلاق، وأن ندرك الصراع الدائم بين شخصيات المكر والشخصيات القادرة في الحياة العملية والسياسية.
لقد كشفت الانتخابات النقاب عن أولئك المخادعين وظهرت المناورات اللاأخلاقية والسبل الملتوية التي يسلكونها لنيل مآربهم. ولئن يحاول الكثيرون نسب هذه الأزمة القيمية إلى الوضع الاجتماعى المتردّي، فانّ البعض الآخر لا يفصلها عن طبيعة العلاقات التي تتحكم قي كلّ من عالم السياسة وعالم المال والأعمال، وتقف وراء نجاح البعض منهم إلى حد بعيد بالرغم من كفاءتهم المحدودة.
ليس من قبيل المصادفة أن تُرتكب لدينا أسوأ الفظاعات باسم الدين والوطن والصالح العام، وأن يجد المواطن نفسه في دوامة العنف و التعصّب والفساد. غالبية الناس صادفوا هؤلاء في حياتهم أو في ميدان السياسة وكانوا ضحية لدسائسهم. حان الوقت لكشف الأكاذيب التي يطلقونها دون وازع، وطموحهم الذي لا يرحم، وسعيهم الدؤوب لتسلق سلّم السلطة، والخُدع المتنوعة التي يمارسونها، وأخيرا جشعهم الذي يدمّر من حولهم.
المؤسف أنّ المجتمعات تميل أحيانا إلى هذا الصنف عند إضعاف الوعي، وتسطيح الثقافة وتغييب دور المؤسسات الدستورية الحارسة لقيم الأمة. لقد استطاع الفاشيون سابقا إقناع الشعب الإيطالي بالإنخراط في مسار لا عقلاني، وكذلك فعل النازيون والشيوعيون. و لا يستبعد ظهور محاولات لدينا أمام صعود الأيديولوجيات المتطرفة.
لا شك أنّ هذه الأيديوجيات تمثّل الشيء ونقيضه في نفس الوقت، فهي تقدّم صورة للدولة القوية لكنها تستعمل أقوى الوسائل من أجل تفكيكها، ومحاربة الديمقراطية، والدعوة إلى الثورة في جميع المجالات. إننا في حالة أزمة حقيقية مع واقع ملتبس، أزمة تجذبنا إلى الماضي عوضا عن العبور الى المستقبل.
لست متشائما ولكن كل ما نراه ونسمعه عن تقويض أركان المجتمع والدولة بسبب الفشل السياسي والسقوط الأخلاقي يبدّد الكثير من التفاؤل، ويدعونا الى استذكار رأي أفلاطون “أنّ ظهور الطاغية مرهون بوجود الفوضى أو التسيّب في الدولة، بحيث يكون هو المنقذ الذي يعيد النظام، والأمن، والاستقرار في البلاد”.
* ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك