الأسباب التي ذكرها زياد العذاري لشرح أسباب استقالته المدوية وغير المنتظرة من حركة النهضة ليست تلك التي ركز عليها في تصريحاته الإعلامية الكثيرة خلال الأيام الأخيرة بل هي تعود إلى الصراعات داخل الحركة الإسلامية وانخرام توازن القوى لفائدة الديناصورات التي تحاصر و تششد الضغط عل راشد الغنوشي.
بقلم : مصطفى عطية *
تقول القاعدة أن الحية التي لا تغير جلدها تموت، وهي التي تنطبق على السياسة بكل الفاعلين فيها، فالجمود هو عدو العمل السياسي الناجع، والنمطية هي آفته المدمرة، لذلك فإن الأحزاب التي تختار الجمود تموت وتندثر في حين أن التي تتجدد تقوى وتتوسع! فهل أن محاولات التغيير التي تشهدها حركة النهضة هي نتيجة وعي سياسي عميق لدى قيادة الحركة بأن ساعة التغيير قد حانت أم أنها وليدة الضرورة الطارئة التي حتمتها وفرضتها التغييرات الإقليمية والدولية ؟ تلك هي المسألة!
النهضة تخسر أكثر من نصف قاعدتها الإنتخابية
يدرك عقلاء حركة النهضة أن الأوضاع التي سادت في البلاد بعد حراك الرابع عشر من جانفي 2011 وأدت إلى فوز حركة النهضة بأول إنتحابات ديمقراطية في البلاد وصعودها إلى سدة الحكم في إطار تزعمها لٱئتلاف ثلاثي (الترويكا)، تغيرت نسبيا بنزول الحركة إلى المرتبة الثانية في الإنتخابات قبل الماضية وٱندثار حليفيها، المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل، ثم تواصل التدحرج على إيقاع الفشل الذي منيت به السياسات المتبعة خلال السنوات المنقضية مما جعلها تخسر أكثر من نصف قاعدتها الإنتخابية خلال الإنتخابات التشريعية الماضية وسقوط مرشحها ” الرسمي” للرئاسة ، عبد الفتاح مورو ، منذ الدور الأول .
تكفل زعيم الحركة راشد الغنوشي على مواجهة رفاق الدرب الرافضين للتجديد والتحديث، والإنتصار للصاعدين من الشباب، وهو ليس بالأمر الهين في حركة محافظة وذات مرجعية دينية، عاشت سنوات الجمر بالداخل والخارج، وقد وجد لدى البعض من إخوانه نصرة ودعما رغم قلة عددهم.
تغير كل شيء، دفعة واحدة، على المستويين الإقليمي والدولي، فما سمي ب”الربيع العربي” تحول إلى فوضى عارمة، وبدأ التشكيك في أهداف التنظيمات الإسلامية من قبل القوى الدولية التي كانت حاضنة لها وداعمة لمشروعها السياسي، فصنفت تنظيم الإخوان المسلمين إرهابيا وزادت العمليات الإرهابية التي شهدتها بلجيكيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، بالإضافة إلى العراق وسوريا واليمن وليبيا، في إثارة الرأي العام الدولي ضد التنظيمات التي تدعي الإنتماء للدين الإسلامي وهو منها براء، ولم تعد تفرق بين المتطرفين والمعتدلين.
كان لسقوط الإخوان المسلمين في مصر ثم السودان الأثر المزلزل في ما يوصف ب:” الإسلام السياسي” وكان الإنقلاب العسكري الفاشل في تركيا قد دق ناقوس الخطر الداهم دون أن يتفطن إلى ذلك أحد. وجاء تصاعد الصراع الخليجي وما نتج عنه من حصار طويل وشديد لدولة قطر، الداعم الأكبر للمنظمات الإسلامية، بمثابة الضربة القاصمة لها.
كان لا بد إذن من إستيعاب الدرس وٱستخلاص العبرة وبالتالي التحرك، إضطراريا، لمواكبة هذه التحولات الجذرية المتسارعة على إيقاع رهيب، لأن كل ارتباك وتردد وتلكؤ من قبل الحركات الإسلامية من شأنه أن يعصف بوجودها مهما كانت صلابة بنيانها.
زياد العذاري لمواجهة المتشددين
لم يتأخر راشد الغنوشي في التصرف بما تمليه مصلحة حركة النهضة، فسارع في بداية الأمر ببعث رسائل مشفرة إلى الرأي العام بالداخل والخارج، ثم تولى توضيح نواياه وأهدافه، للمسؤولين في العديد من البلدان أثناء زيارته له، كما نفذ البعض مما كان أعلن عنه في المؤتمر الأخير للحركة، عام 2016، فأزاح بعض المحافظين والمتشددين ورموز جيل المنافي من الواجهة، ليعوضهم بأخرين من الشباب وفي مقدمتهم زياد العذاري الذي كان قد ظهر في الساحة السياسية لأول مرة بعد إنتخابه عضوا بالمجلس الوطني التأسيسي ممثلا للحركة، وقد بدا وقتها للكثيرين وكأنه مختلف عن تلك الرموز النهضوية الذي هجمت على المشهد السياسي بخطاب إستئصالي وإقصائي وثأري وتكفيري مخيف، وسرى في الناس إقتناع بأن حركة النهضة لا تضم في صفوفها المتشددين فقط بل لها العديد من المعتدلين، ولو ظاهريا.
لم يدخل الأمين العام المستقيل للحركة حلبة الصراعات المضطرمة بين التيارين المتصادمين، فكرا وأساليب ومناهج، بل بقي على الحياد مما جعله يحظى بٱحترام الجميع، كما تم إختياره ليكون الممثل الوحيد لحركة النهضة، برتبة وزير، في حكومةالإئتلاف الرباعي السابق بقيادة الحبيب الصيد، عام 2015، ثم حافظ على موقعه في حكومة الوحدة الوطنية برئاسة يوسف الشاهد، عام 2016، مما وفر له فرصة الإطلاع على دواليب الحكم وٱكتساب نصيب من التجربة، التي يفتقدها جل، إن لم نقل كل قياديي الحركة .
الغنوشي يتراجع تحت ضغط ديناصورات الحركة
كانت هذه المواصفات هي التي حثت راشد الغنوشي على اختياره لتولي منصب الأمانة العامة للحركة خلفا لحمادي الجبالي وعلي لعريض، وهو حمل ثقيل جدا في مرحلة إنتقالية دقيقة بالنسبة لحركة النهضة والبلاد عموما. وبعد فترة من التأمل لم تطل كثيرا، تحرك زياد العذاري في السياق “التصحيحي” للحركة خاصة بعد الإنتخابات التشريعية الأخيرة التي كلفت النهضة، كما ذكرنا آنفا، خسارة أكثر من نصف قاعدتها الإنتخابية، هذا التحرك لم يرق لديناصورات الحركة أمثال نور الدين البحيري و محمد بن سالم وعبد اللطيف المكي وعلي العريض فتآزروا لحصار العذاري وقطع الطرق أمامه خاصة بعد استقالة العديد من المسؤولين المحسوبين على خطه السياسي وعلى رأسهم كل من لطفي زيتون و زبير الشهودي وفطوم عطية وٱبتعاد أو”إبعاد”عبد الفتاح مورو.
أمام هذا التململ، الذي أصبح يهدد عرشه قرر راشد الغنوشي التخلي عن خطته في تجديد شرايين الحركة وتحديث مناهجها وسارع بالتقليص من النفوذ المتنامي لٱبنه الروحي زياد العذاري فسحبه من قائمة المرشحين لرئاسة الحكومة و وزاد في تضييق هامش تحركه في صلب الحركة وفوض الكثير من صلاحياته إلى أعضاء آخرين.
عندها فهم زياد العذاري الرسالة جيدا فبادر بتقديم إستقالته من كل المسؤوليات التي يتولاها وليس من الحركة كما فعل سابقوه من الذين ذكرناهم ، ثم أدلى بتصريحات لا علاقة لها بالأسباب الحقيقية لٱستقالته مما جعله يخسر الكثير من رصيد مصداقيته داخل الحركة وخارجها.
* صحفي وكاتب.
شارك رأيك