يبرز حادث المرور المُروّع الذي هزّ ضمير تونس، والذي جدّ يوم الأحد الفائت 1 دسيمبر 2019 بـمنطقة عين السنوسي بين عمدون وعين دراهم، متسببا في موت 27 شاب وشابة، أنّ السّلامة المروريّة وإن يعتبرها البعض أفضل مما كانت عليه في العقود الماضية فهي موضوعيا لا زالت تسير بنسق يحتاج إلى دفع وتنشيط على جبهة عريضة من القطاعات وخاصة على مستوى احترام القوانين واعتماد المعايير المطلوبة. أسئلة عديدة تّطرح حول السياسات والأفكار والممارسات المعتمدة لمواجهة قضية مُزمنة.
بقلم العقيد (م) محسن بن عيسى *
لا شك أنه مهما اختلفت الاستراتيجيات وتنوّعت توجد نقاط مشتركة بينها ينبغي مراعاتها وأخذها بعين الإعتبار، وأهمها فيما يخص موضوع الحال عملية التحديث المستمرة للخطط والأهداف لحماية المجتمع من هذه الآفة.
من هذا المنطلق تعود بي الذاكرة الى بدايات العمل بالتخطيط والتدخل حسب الأهداف. ومن المسائل الهامة التي اتخذناها في هذا الإطار سنة 1989 إحصاء النقاط السوداء للحوادث وتعني “أماكن تكرار الحوادث” على كامل شبكة الطرقات إلى جانب إحصائيات حوادث المرور. ودعّم المرصد الوطني للسلامة المرورية هذا التوجه منذ إحداثه سنة 1993 في إطار ما يعرف بالمعالجة الميدانية.
بدايات مباشرة ملف النقاط السوداء
لقد باشرنا هذا الملف بشكل عملي بداية من سنة 1995 بدراسة النقاط السوداء في ولايات إقليم تونس، وتوسّعت الاهتمامات انطلاقا من 1998 لتشمل تعداد أماكن تكرار الحوادث بكل ولاية داخل وخارج مواطن العمران، مع التحيين والمتابعة. وتعدّدت المجهودات لتحقيق نتائج على هذا المستوى لعلّ أبرزها كانت بمفترق الطريق الوطنية رقم 1 (كلم 101) مع الوطنية رقم 2 بمعتمدية النفيضة من ولاية سوسة، حيث تراجعت الحوادث منذ تهيئة المفترق سنة 1999.
وتأسيسا على هذه التجربة في التعاون بين المرصد الوطني ووزارة التجهيز أُنجزت دراسة للطريق الوطنية رقم 6 (من الكلم 105 إلى الكلم 140.5) بولاية جندبة، ثم دراسة ثانية للطريق السريعة أ1، وثالثة نموذجية للطريق رقم 3 في إطار دراسة حول التنمية البشرية بولاية قفصة بالتنسيق مع برنامج الأمم المتحدة للتنمية بوزارة الصحة. هذا دون السهو عن ملف النقاط السوداء بالمدارس الابتدائية بالتنسيق مع وزارة التربية.
الخروج بملف السلامة المرورية من الاطار العدلي الى الوقائي و الاستراتيجي
أعتقد أنّ سياسات النقل والسلامة المرورية التي طرحت قي تلك الحقبة جابهت بشكل واضح قضية ارتفاع حوادث المرور. وأنّ توجيه الاهتمام لتطوير شبكة الطرقات والنقل العام، إلى جانب اتخاذ سلسلة من الاجراءات القانونية التي تهم السائق كانت إلى حدّ ما في إطار الاستجابة لمتطلبات استراتيجيات السلامة المرورية الخماسية وتحقيق أهدافها.
لقد توسعت اهتمامات السلامة المرورية وتنوّعت تدخلات هياكل الدولة بفضل تضافر جهود من أخلصوا لهذه القضية وساندوها بأفكارهم وجهدهم ووقتهم بعديد الوزارات رغم ما سببه ذلك لبعضهم من إكراهات. لقد عاشوا معنا معركة إصلاح بعض العقليات والخروج بهذا الملف من الاطار العدلي الى الوقائي ثم الى الاستراتيجي بالمعنى الكامل للكلمة.
أعتقد أنّ هناك إدراك لدى رجال المرصد اليوم بالتحديات القائمة والحاجة لتعزيز السلامة المرورية من خلال تكثيف التحاليل والدراسات للسيطرة على الظاهرة وعكس اتجاهها. ولعل توجيه الاهتمام مجددا مع شركاء المرصد الى العوامل التالية يساعد على تحقيق الأهداف المؤملة عاجلا أو آجلا.
- العوامل المرتبطة بإحداث الطرقات وهي بالأساس تقنية و تضم : أخطاء أو نقائص في البنية الأساسية Les défauts de l’infrastructure. ويمكن التعرف عليها وتحديدها على الميدان بسهولة (المنعرجات الضيقة و عدم وضوح الرؤية وأخطاء بالرسم و نقائص بحافة الطريق) .
- العوامل المتأتية من تفاعل السائق مع الطريق وهي عوامل تتصل بمدى إدراك السائق وتفاعله مع تهيئة الطريق لضمان سلامته. ويمكن تعريف هذه المنهجية العلاجية للطرقات وفقا لدراسة المعهد الفرنسي للبحوث حول سلامة النقل سابقا (INRETS) بـ”L’ergonomie Routière” أي التنظيم المنطقي للطرقات لضمان حسن أداء النظام المروري لدوره من ناحية وتطابق وتوافق السلوكيات مع واقع الطرقات من ناحية أخرى.
لاشك أنّ السلامة المرورية لدينا ليست جديدة وليست وليدة اليوم، ولكن تبقى في حاجة الى مزيد الدعم من حيث الكفاءات المتخصّصة هذا فضلا عن تأطير الجمعيات العاملة في هذا المجال فتجربتهم لازالت في حاجة إلى إدراك المعارف والخبرات المرورية واحتوائها.
* ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك