نحن اليوم إزاء قانون مالية 2020 تم رسمه داخل المكاتب الضيقة ولا يعدو أن يكون سوى معادلة محاسبية في خيال راسمها هم وحيد هو تسجيل التحكم في عجز الميزانية بنسبة 3% سنة 2020 مهما كان الثمن حتى وإن كانت تكلفتهها الإجتماعية باهضة جدا. وهو ما سيكون فعلا…
بقلم فيروز الشاذلي
قانون المالية هو الترجمة المالية للسياسة الإقتصادية والإجتماعية للحكومات وهو يعبر عن توجهاتها في مختلف الميادين الأساسية للدولة، لكن نحن الآن أمام مفارقة عجيبة فالحكومة المغادرة هي التي أعدت قانون المالية الذي سوف تطبقه الحكومة القادمة السنة القادمة، وللتخلص من مسؤولية الإلتزامات الإجتماعية والإقتصادية قامت الحكومة الحالية بصياغة مشروع قانون معروض الآن في مجلس النواب برؤية عمياء عن حقيقة الأزمة الخانقة للإقتصاد التونسي، وهذا راجع بالأساس إلى إرادة الحكومة الحالية إحالة الملفات الحارقة إلى الحكومة الجديدة بتعلّة المحافظة على التوازنات المالية العامة حتى لو كان ذلك يشعل فتيل الإنفجار الإجتماعي.
لذا فإنّ الحكومة الجديدة قدرها محتوم بضرورة إعداد قانون مالية تكميلي وبصفة مبكرة لا تتجاوز منتصف السنة القادمة لتقطع مع سلبيات الماضي وترجمة الوعود المنتظرة من العهد الجديد.
قانون مالية دغمائي و ليس له علاقة بالنمو الإقتصادي
قامت الحكومة الحالية، مستغلة وضعية الفترة الإنتقالية وتسليم دواليب الحكم للحكومة الجديدة، بإعداد قانون مالية لا نستطيع أن نجد له صفة سوى قانون إرادة العميان، فليس هناك إدراك للواقع الذي نعيشه وظروف مجتمع في حالة غليان لم يعد يستطيع تحمل المزيد من تبعات فشل السياسات الإقتصادية التي دمّرت قدرته الشرائية ليجد نفسه في كل سنة مطالب بالتضحية من جديد ويصبر على الترفيع في أسعار المحروقات و الكهرباء حسب منظومة التعديل الآلي للأسعار والتي مازالت متواصلة حتى مع هذا القانون الجديد للمالية بالإضافة إلى الزيادات غير المباشرة في الأداءات عبر توسيع قاعدة الضريبة الخاضعة للأداء.
إننا إزاء قانون مالية تم رسمه داخل المكاتب الضيقة ولا يعدو أن يكون سوى معادلة محاسبية في خيال راسمها همه الوحيد هو تسجيل التحكم في عجز الميزانية بنسبة 3% سنة 2020 مهما كان الثمن بالرغم أن هذا التوجه وقع التقدم فيه كثيرا فقد إنخفض عجز الميزانية من حوالي 7% إلى 3،5%، وهو تقدم مهم بالرغم من تكلفته الإجتماعية، لكن التسريع في هذا الحل السهل عبر التخفيض المفاجأ في دعم المحروقات و الكهرباء سوف يرفع من نسبة التضخم بصفة كبيرة في جميع المواد بإعتبار تداخل تكلفة المحروقات و الكهرباء في جميع القطاعات الإستهلاكية، وهذا ما ينذر بصدام إجتماعي كبير لأن طاقة إحتمال المجتمع للزيادات قد وصلت حدا لا يطاق.
أبرز مثال على فشل هذه السياسات المتسرّعة للحكومات في خفض العجز عبر الزيادة الفجئية في أسعار المحروقات هي الإنتفاضات الشعبية العارمة التي تشهدها عديد البلدان هذه الأيام نتيجة نفس الممارسات كلبنان، والعراق و إيران و بلدان أمريكا الجنوبية، حيث رفضت الشعوب أن تتحمّل وحدها عبئ سياسات الفشل و الفساد مما نتج عنه خسائر بالمليارات بل تفاقم العجز نتيجة الركود الإقتصادي بسبب الإحتجاجات العارمة.
من جانب آخر كان التوجه العام لمشروع قانون المالية المبرمج للسنة القادمة متناقضا إلى حد كبير مع الأهداف المعلنة لحكومة الشاهد من مكافحة التجارة الموازية و دفع النمو الإقتصادي للقطاع المنظم، فقانون المالية المعروض لم يتطرق ولو بأدنى إجراء أو قرار للتصدّي لظاهرة التجارة الموازية التي إستفحلت في الإقتصاد التونسي وأصبحت كالسرطان الذي يخنق القطاع المنظم، وفي المقابل نرى أن القانون الجديد للمالية أتى بعديد الإجراءات التي تزيد الضغط الجبائي على القطاع الرسمي و المهيكل كزيادة القاعدة الضريبية وتوسيع مجالها و أيضا إقتراح نوع جديد من المراجعة الجبائية أطلق عليها “المراجعة المحدّدة” فكأنما المؤسسات الإقتصادية لا تكفيها المراجعة الجبائية المعمّقة.
فشل المنوال التنموي المبني فقط على حفظ التوازنات المالية
الحكومة الراحلة صدّعت رؤوسنا لمدة ثلاثة سنوات بأن النمو الإقتصادي حلّه الأساسي ينطلق من خلال المحافظة على التوازنات المالية و تخفيض العجز وتقليص النفقات وما علينا إلا أن نستحمل معها هذه الإجراءات الموجعة من رفع أسعار المحروقات ورفع الأداءات إلى أن وصل التضخم إلى مستوى غير معقول، هذا كله في إنتظار تحقيق الحكومة لنسبة نمو قدرتها بنفسها بحوالي 3% قبل قانون المالية لسنة 2019 ولكن بالرغم أن كل الفرضيات التي بنت عليها الحكومة توقعاتها للسنة المالية 2019 كانت جد إيجابية فقد إنخفض سعر البترول من 75 دولار إلى 63 دولار فقط وتحسن سعر الصرف إضافة إلى صابة قياسية في الحبوب و مشتقاتها و زيت الزيتون وموسم إستثنائي قياسي للقطاع السياحي، لكن كانت النتيجة جد هزيلة فمن نسبة 3% نمو إقتصادي متوقعة لم تحقق الحكومة إلا قرابة 1% أي ثلث التوقعات وهو لم تسجله أي حكومة منذ الإستقلال .
لهذا نستطيع القول أن حكومة الشاهد رغم المساندة الكبيرة من أغلب الأطياف السياسية و الفاعلين الإقتصاديين قد بلغت مستوى قياسي من الفشل نتيجة إعتمادها على الحلول السهلة المتمثلة في اللجوء إلى الإقتراض من صندوق النقد الدولي مقابل تلبية طلباته بتخفيض الدعم و الإنفاق العمومي ضمن سياسة تقشفية، بينما تركت المحرّك الفعلي للإقتصاد و الذي يكفل الحصول على جميع هذه الأهداف وهو دفع النمو الإقتصادي الذي يضمن لوحده الخروج من نمط الإقتصاد الريعي نحو الإقتصاد المهيكل .
المطلوب قانون مالية تكميلي قبل منتصف السنة القادمة
إن كانت الحكومة الجديدة تريد أن تحدث تغيير جذري و إيجابي على العمل الحكومي وفق تصورات و آليات إقتصادية جديدة تقطع مع الماضي، فعليها بداية الشروع فورا في تصوّر و إعداد قانون مالية تكميلي قبل منتصف السنة القادمة لتلافي الأخطاء و الإجراءات المقصودة التي وقعت فيها الحكومة السابقة خاصة منها تخصيص قرابة 1770 مليون دينار ذات طابع إنتخابي، كذلك مزيد العمل على القيام بإجراءات لمكافحة التجارة الموازية وتفكيك منظومته المرتبطة بالفساد، دفع الإستثمار في المشاريع الكبرى المسنودة من قبل الدولة في إطار التعاون الدولي لأن سياسة الحكومة الراحلة أثبتت فشلها في الإعتماد فقط على القطاع الخاص الذي أثبت عجزا واضحا في ظل الأزمة الإقتصادية الخانقة، ترشيد الواردات التي فاقمت العجز التجاري خاصة مع الأطراف الكبرى كالصين و إيطاليا، تدعيم الطاقات المتجدّدة لأنها الحل الأمثل لتقليص كلفة الطاقة في تونس.
شارك رأيك